كيف تبدأ رحلة الإبداع في عصر الوب

“بعد إذنك، أنا أركز، أنتظر سقوط تفاحة فوق رأسي”

العديد من الأشخاص ينظرون إلى الإبداع على هذا النحو، فهو لحظة إلهام شبيهة باللحظة المفترضة التي لمعت في ذهن نيوتن حينها فكرة قانون الجاذبية، بعيد سقوط التفاحة. فهو شيء طارئ ينتظر بطريقة من الصعب عليك أن تفعل أي شيء سوى أن تركز وتحلم وتنتظر!

والحقيقة مغايرة لهذا التصور تماماً، فالإبداع كما يقول كين روبنسون عملية يمكن، وبكل بساطة، أن تكون عملية واعية قابلة للتعميم. فهي مبنية بشكل أساسي على الشغف وعلى التطوير المستمر للأفكار وتفاعلها مع وسطها الاجتماعي بشكل حر ودون قوالب معينة (وهذا ما يتناقض في الحقيقة مع الكثير من الأنشطة التي تستهدف “تحفيز” الإبداع). فضلاً عن هذا، وكما يبين ذلك بتفصيل الكاتب الأمريكي المشهور ستيفن جونسون، فإن الإنترنت والوب زادت من معدل الإبداع على نحو غير مسبوق.

ورغم هذا كله إلا أن الكثيرين من الأفراد المتحمسين لا يعرفون بالضبط كيفية البدء. وسأحاول في هذا المقال أقدم بعض النصائح العملية لتضع المرء على الطريق الصحيح، لا أدعي أن هذه النصائح هي كل ما يمكن أن يقال، لكن أعتقد أنها أساسية ضمن هذا المجال. ولا: لست بحاجة إلى أي مستلزمات مسبقة لكي تستفيد من هذه النصائح، سوى أن تحب أن تكون مبدعاً وأن تفكر بشكل حر!

الشغف وقود الإبداع

للشغف مفاهيم في الثقافة العالمية مثل Geek وNerd. يوضح الشكل علاقتها مع بعض المفاهيم الأخرى اضغط على الصورة لمزيد من المعلومات

نعود لما بدأنا به: فالركيزة الأساسية للإبداع هو الشغف. إنه ذلك الشيء الذي يبقيك ساعات وساعات تقوم بشيء ما، وتشعر أنك لم تقض سوى بضع دقائق.

لم هو الشغف مهم إلى هذه الدرجة؟ في الحقيقة إن الشغف وقود الإبداع، وهو الذي يدفعك إلى تحمل الكثير من المصاعب والمشاق، بالإضافة إلى أن ذروة طاقتك تكون في نطاق شغفك.

بناء على هذا فإن عليك أن تعمل ضمن إطار شغفك، وإن لم تكن تعرف ما هو شغفك بالضبط فعليك أن تجعل أولويتك معرفة ذلك. هناك العديد من الطرق، لعل أحدها هو أن تنظر إلى الحاجات الاجتماعية التي تشغل ذهنك أو تفكيرك، فإنني أزعم أن الحاجات والمشاكل الاجتماعية التي تثير انتباه الإنسان مرتبطة إلى حد بعيد بما هو مشغوف به. وهي (أي الحاجات) معقدة وكثيرة، وإذا كنت تشعر وترى أهمية حل مشكلة اجتماعية ما، فهذا يعني أن لها صلة ما بشغفك، فلو لم يكن الأمر كذلك، لم تكن لتراها على الأرجح!

يمكن لأمر آخر أن يساعدك، وهو أحلام الطفولة، فهي كذلك تعكس جزءاً صادقاً من ميولك واهتماماتك، فلا تستهن بها! أما إذا لم تساعدك كل هذه الأمور في معرفة شغفك، فما عليك سوى أن ترم نفسك في كل الاتجاهات: اقرأ كل ما يقع تحت يديك من مجلات وكتب ومقالات وأخبار، والتق بمن شئت من الأشخاص من ذوي الخلفيات المتنوعة، ولا تبخل على نفسك بحضور أي نشاط أو مؤتمر أو لقاء، فكل هذا بالتأكيد، ولو طال الوقت قليلاً، سيساعدك على أن تجد ما يثير اهتمامك وشغفك.

لنبدأ بالإبداع!

في الحقيقة إذا كنت تعرف ما يثير شغفك أو اهتمامك، سواءً أكتشفته الآن أم كنت تعرفه منذ زمن، فإنك ستجد أن لديك شيئاً من الأفكار البسيطة، وربما الساذجة، حول بعض القضايا المعينة. يعني ربما كنت تحلم أن تصنع سيارة أو جهاز حاسوب، أو تشعر بالانزعاج من مظاهر التلوث اليومية أو تهتم ببعض القضايا الفكرية أو الثقافية الموجودة في بيئتك. فمهما كانت نظرتك إلى أفكارك البسيطة تلك، فهي في الحقيقة البذور التي يجب عليك أن تعتني بها.

لكن كيف تعتني بها وكيف تنميها؟ في الحقيقة الأمر بسيط، حالما تشعر أنك فكرتك أصبحت جيدة:

  • اعرضها على من حولك
  • ابدأ بتنفيذها

لكن كيف أجعل فكرتي جيدة؟ عليك أن تقوم بالتالي:

  • اعرضها على من حولك
  • ابدأ بتنفيذها

إذا لاحظت شيئاً من التناقض في كلامي فمعك حق. السبب هو تطابق الهدف والوسيلة! فحتى تحصل على فكرة جيدة تنفذها وتعرضها على الناس، عليك أن تنفذ هذه الفكرة وتعرضها على الناس! فدائما توجد عملية تغذية راجعة، فلا يمكن أبداً أن تصل فكرتك إلى مرحلة جاهزة تعرضها على الناس وتبهرهم بها دفعة واحدة. والفكرة الجيدة تأتي حصيلة نقد وعرض وتمحيص ودمج وتفاعل متكرر ودوري مع أفكار الآخرين (هذا له صلة بما أسميه معضلة الغابة المطرية التي سأكتب عنها في تدوينة قادمة إن شاء الله).

مقطع من فيديو تلخيصي لكتاب ستيفن جونسون "من أين تأتي الأفكار الجيدة"

تسمى هذه الفترة بفترة الحضانة، ولا ريب أن هذه الفترة يجب أن تستمر طويلاً. ولكن إذا ما كان لديك الشغف والإصرار فهذا الأمر سيكون هيناً، وهذا هو ربما السر الحقيقي وراء جميع الابتكارات والأفكار الجديدة في العالم، فكما يشير ستيفن جونسون فإن فكرة الوب التي ابتكرها تيم برنرزلي استغرق تطورها أكثر من عشرين سنة، والأمثلة لا تنتهي للتدليل على فترة الحضانة.

ما علاقة الوب؟

معك حق أن تتساءل عن هذا. في الحقيقة إن الوب زاد من معدل الإبداع. والسبب هو أنه يزيد من سرعة التفاعل مع أفكار الآخرين، وهو الأمر الذي درسه (كما ذكرنا في البداية) ستيفن جونسون في كتابه “من أين تأتي الأفكار الجيدةWhere good ideas come from. فنشوء المدن في العصور الوسطى، بالإضافة إلى انتشار المقاهي كأماكن للقاء الناس من مختلف الخلفيات دون وجود قالب معين لهذه اللقاءات، كانت كما وضح جونسون، العامل الأهم في ازدهار الإبداع في المجتمعات الأوربية إبان عصر النهضة العلمية في أوربة.

ولكن ما هي الخطوات العملية التي يمكن أن نرى فيها أثير الوب على تسريع عملية الإبداع؟ قبل أن نبدأ بالحديث عن هذا سنتعرف بداية على مجموعة أدوات معرفية مرتبطة بالوب أسميها الثلاثية السحرية.

الثلاثية السحرية

ففي ظل هذا التغير الجديدة هناك ما أسميه بالثلاثية السحرية، التي عليك اكتسابها وهي تقوم على

  • التعلم الذاتي
  • استخدام الإنترنت
  • إتقان اللغة الإنكليزية

قمت بوصفها بالسحرية، لأنها لها مفعولاً “سحرياً” على اكتسابك للمعرفة. فهي ستتيح لك الوصول إلى مجتمعات وفضاءات معرفية غير متناهية لا تقارن بحجم ما يمكنك الوصول إليه بدونها. وهذه المهارات كما سيتبين لنا مرتبط بعضها مع بعض، واكتسابها يعتمد بشكل أساسي على ممارستك لها.

لنبدأ بالتعلم الذاتي، فللأسف فإن عليك أن تتعلم هذه المهارة بشكل ذاتي أيضاً! فالتعلم الذاتي مبني بشكل أساسي على التجربة والاستفادة من الخبرات السابقة، فلنقل، وعلى سبيل المثال، أنك تود تعلم قيادة السيارة، وليس هناك من يرشدك، فعليك أولاً أن تستجمع ما تعرفه من قبل عن العملية، فإن أصبت فيما قمت به، فذلك جيد، وإن لم يحصل هذا وحصل خطأ ما (لنقل أنه لم يكن خطأً كارثياً!) فهذا جيد أيضاً لأنه أكسبك خبرة أيضاً ستستفيد منها في المستقبل.

رسم كرتوني يصور مرحلة متقدمة من التعلم الذاتي وهو مفهوم الملتزم بالتعلم ذاتياً Autodidact

فهذا هو المبدأ الذي يعتمد عليه التعلم الذاتي، قد يكون بطيئاً في البداية لكنه لا يلبث أن يتسارع على نحو ملحوظ. بالطبع ليس من الضروري أن تعتمد على تجربتك وحدها في عملية التعلم الذاتي، فإن الإنترنت وضعت إمكانية تسريع العملية  في متناول اليد، فالمشاكل أو الأسئلة التي ستواجهك غالباً ما واجهت أناساً من قبلك، والإنترنت مكان تراكم لخبرات مئات ملايين الناس حول العالم، وبمقدار معرفتك لكيفية الاستفادة من خبرات الآخرين بمقدار ما تزداد سرعتك في الوصول إلى ما تريد. ففاعلية التعلم الذاتي في الحقيقة مرتبطة إلى حد بعيد بالمقدرة على الاستفادة من الإنترنت.

طبعاً استخدام الإنترنت في السياق المعرفي أمر واسع جداً، ولكن ربما أظن أنني أقصد بشكل أساسي قدرتك على استعمال محرك بحث مثل غوغل Google. والمقصود بالطبع ليس غوغل، ولكن المقصود هو القدرات المعرفية المتضمنة في عملية البحث، والتي يمكن أن أقسمها إلى مرحلتين :

المرحلة الأولى ترتبط بالقدرة على الوصول إلى المعلومات. وهذا في الحقيقة مرتبط بشكل كبير بمعرفتك عما تريد. وهنا يطل علينا موضوع اللغة الإنكليزية. فمقدار معرفتك للمصطلحات والتعابير المستخدمة في اللغة الإنكليزية هو الأساس. كيف يمكن اكتساب هذه المصطلحات؟ نعود إلى نقطة الممارسة، فالأمر مرتبط بمدى قراءتك، فالقراءة تزيد من المصطلحات الموجودة لديك والتي يمكنك فيما بعد أن تستخدمها لصوغ ما تود الوصول إليه.

فعلى سبيل المثال، لنقل أنك تريد معرفة كتابة نظام تشغيل من الصفر، فربما يتبادر للذهن أن تكتب في غوغل العبارة التالية:

operating system from zero

في الحقيقة لن تحصل على ما تبتغيه، فرغم أنك عرفت المصطلح الخاص بنظام التشغيل وهذه نقطة جيدة، لكن مصطلح “from zero” غير مستخدم في اللغة الإنكليزية على الإطلاق. بينما لو قمت باستخدام العبارة التالية:

operating system from scratch

فستجد أن أول نتيجة تطابق تماماً مبتغاك. فمثل هذه الخبرة لا يمكن اكتسابها إلا من خلال قراءة مقالة تتضمن هذا المصطلح، فنعود إلى معضلتنا المفضلة في هذه المقالة: الهدف والوسيلة مرتبطان ببعضهما! فحتى تستطيع الوصول إلى مقالات جيدة عليك أن تقرأ الكثير من المقالات الجيدة أيضاً.

أما المرحلة الثانية فهي القدرة على التعامل مع الكم الكبير من المعلومات، فنحن الآن في عصر تتعدد فيه مصادر المعلومات المختلفة وقد يعرف البعض الوصول إلى المعلومات لكنهم يفاجئون بالخيارات الواسعة المتاحة ويصابون بالتشتت. فعدم القدرة على التعامل مع العدد الكبير قد يقود إما إلى الإحباط أو إلى الاعتماد على معلومات ضعيفة. فيجب أن تطور آليتك الخاصة لتقييم المواقع والمحتوى بناء على تجربتك، وأن تسرع عملية التقييم لديك من خلال الاستفادة من تقييمات الآخرين.

طبعاً ومجال الحديث يتسع في المهارات المعرفية التي يجب اكتسابها، لكنها كلها متحمورة حول قدرتك على امتلاك واستخدام هذه الثلاثية السحرية.

لنبدأ اللعب بالثلاثية السحرية!

أما وقد أجملنا الحديث عنها لنتحدث عن كيفية استخدام هذه الثلاثية.

في الحقيقة اخترت لفظ “اللعب” عن قصد. فمن الخطأ الاعتقاد بوجود طريقة واحدة أو قالب ثابت يمكن أن يحفز ويطور أفكارك، فالمجال متروك أمامك لكي تفكر في الكيفية التي ستبحث وتطور فيها أفقك وأفكارك، وحسبي أن أشير إلى بعض الممارسات المقترحة!

النوع الأول من الممارسات هو ما أسميه بالاستكشاف الحر، وهو أن تمضي وقتك مستمتعاً بالإبحار في فضاء المحتوى، لاسيما ما أسميه بالمحتوى التحفيزي، وهو المحتوى الذي يمكنك من أن تعرف آخر المستجدات والمتغيرات في مجال علمي أو معرفي ما بطريقة إجمالية ومحفزة لا تفترض معرفة معمقة أو تفصيلية في هذا المستجد. لعل موقع مؤتمر TED هو خير مثال على هذا النوع من المحتوى، حيث تتميز محاضرات مؤتمر تيد بقصرها (20 دقيقة كحد أقصى) وتركيزها على إثارة الخيال والحماس وإيصال الفكرة الإجمالية بعيداً عن طريقة المحاضرات الأكاديمية التقليدية، فهذا المؤتمر استطاع أن يستقطب النخبة العالمية، لاسيما من خلال أحداث TEDx المحلية التي تجري حول العالم  (ومحاضراته مترجمة بالكامل بفضل فريق الترجمة العربي المميز). فهذه نقطة بداية جيدة ومن الأمثلة الأخرى موقع مجلة العلمي الأمريكي Scientific American، موقع المجلة العريقة المتخصصة بمختلف مناحي العلوم والتقانة، والأمثلة لا تنحصر في الموقعين الأخيرين، والمجال مفتوح أمام بحثك وخبرتك الخاصين بك.

المهم أن عليك دوماً أن تبحث عن أمثال هذه المواقع، فمن المرجح أن تجد الكثير من بذور الأفكار التي لديك أشجاراً كبيرة هناك، فهذا هو أحد الطرق التي تسرع فيها الوب من تطور الأفكار لديك. وكثيراً ما مررت بهذه التجربة، ومنها فكرة روادتني في بداية تعرفي على نظام الويكي، حيث كنت أحدث أصدقائي بحماس عن الكيفية التي سمحت فيها الإنترنت للأعمال التطوعية الجماعية أن تكون أذكى وأقوى من جهود المؤسسات التقليدية، وبالفعل وجدت محاضرة كاملة لكلي شيركي Clay Shirky بعنوان: “التعاون مقابل المؤسسات” Institutions vs collaboration. وكان وراء المحاضرة كتاب كامل حصلت عليه وتمكنت من أفكاره التي استغرق جمعها وتطورها وقتاً كبيراً بلا ريب، والأهم من ذلك أنني استطعت أن أتجاوزها لأبني فوقها. فلولا الإنترنت كنت قد احتجت إلى وقت طويل جداً حتى أصل إلى ما وصل إليه شيركي (هذا إذا وُفقت أن أصل). فمن المهم جداً أن تستطيع أن تتعرف على الأفكار السابقة لأنه غالباً ما ستجد من بدأ بما تفكر به، ومن الجميل جداً أن تستطيع أن تكمل الطريق بعده.

النوع الآخر من الممارسات هو الاستكشاف الممنهج، وفيه عنصران. فأما العنصر الأول فهو الموسوعة. من الصعب أن نشرح أهمية الموسوعة في بضعة أسطر، لكنها ببساطة خريطة المعرفة فبدون الخريطة ستهدر الكثير من طاقتك. فعناصر الموسوعة هي المفاهيم، وعلاقاتها مع بعضها. لهذا فعليك دوماً أن تستشكف المصطلحات والمفاهيم التي تصادفك، لاسيما في المحتوى التحفيزي، وقيامك بهذه العملية هو الأساس لكي تصبح أفكارك أفكاراً مؤصلة تستطيع مكاملتها مع ما سبق ووضعها ضمن السياق العالمي، وهذا هو في الحقيقة ما تقدمه الأبحاث العلمية، فالأبحاث العلمية تحاول دوماً إيجاد علاقات وروابط جديدة بين المفاهيم القديمة. ففي الموسوعة تستكشف العلاقات القديمة، وفي الأبحاث تستكشف العلاقات قيد التأسيس.

يساعد على هذا الأمر استخدامك لموسوعة ويكيبيديا، فكلما صادفك مصطلح جديد ابحث عنه في الموسوعة، فستكتشف كل المصطلحات الأب والابن والإخوة لهذا المصطلح، فبدل أن تأكل حبة عنب واحدة، لم لا تسحب كل العنقود؟ وتطبيق هذا الأمر ليس مقتصراً على معرفة ترجمة المصطلح، فمعرفة اللغة العلمية أيضاً موضوع أساسي. فإن لم تكن لديك اللغة العلمية المتمثلة بالمصطلحات والمفاهيم العلمية، فستجد أن من العسير أن تعبر عما تريد أو أن تتواصل مع المجتمع العلمي.

ومن الأمثلة على ثمار هذا النوع من الاستكشاف هو ما حدث معي مرة، حيث أخبرني أحد الأصدقاء:

“لماذا لا أستطيع وضع الملف والوصول إليه إلا من خلال مجلد واحد؟”

لقد كانت فكرته مهمة جداً. فمثلاً لنقل أنك تصورت مع صديقك خالد في الحديقة وأردت أن تخزن هذه الصورة في جهازك. في الوضع الطبيعي يمكنك أن تضع هذه الصورة في مجلد واحد، لنسمه “صور في الحديقة في التاريخ X”، ولكن لنقل أنك أردت بعد عدة أشهر أن تصل إلى كل الصور مع صديقك خالد. فهذا الأمر غير ممكن إلا إذا كنت قد نظمت ملفاتك بحيث يكون لديك، مثلاً، مجلد “صوري” ومجلد “صور مع خالد” ومجلد “صوري في الحديقة”، وهذا الأمر في الحقيقة مكلف ومتعب.

فكرت قليلاً، وشعرت أن لهذه المشكلة وجه صلة كبيرة بما يسمى بالدلالة Semantics.  وقلت لنفسي ربما يوجد من عمل على فكرة سماها Semantic file manger. بحثت فلم أجد، ثم عاودت البحث عن Semantic Desktop أي سطح المكتب الدلالي، وبالفعل وجدت مشاريع ضخمة ومتقدمة (أحدها ممول من الاتحاد الأوربي وهو مشروع NEPOMUK) وكانت نفس الفكرة التي تحدث عنها صديقي!

فلنتخيل لو أنني كنت متحمساً وبدأت بتطوير هذه الفكرة من الصفر، كم من الوقت سيضيع في حل مشاكل ربما تجاوزها الآخرون وبدؤوا بالتفكير في مشاكل أكثر تقدماً. في الحقيقة كثيراً ما كانت تحدث مثل هذه الأمور بين العلماء في الماضي وهو ما يسمى بالاكتشاف المتعدد Multiple Discovery، وهناك قائمة كاملة للاكتشافات التي قام علماء بالتوصل إليها في أوقات متقاربة رغم عمل كل واحد منهم بشكل مستقل. فربما كان هذا مغفوراً قبل عصر الإنترنت والوب، أما الآن، فهذا خسارة بالنسبة لك، لأن هناك عقول ملايين الناس الموجودة على الإنترنت والتي تتحرك وتتقدم إلى الأمام، ومن المؤسف حقاً أن لا تستطيع أن تستفيد منها، وأن تشغل وقتك بشيء تجاوزه الناس كل هذا لأنك لا تعرف الوصول إليه!

والنقطة الأهم في المثال السابق، هي أنه لم يكن بالإمكان أن أعرف بوجود المشاريع السابقة عن سطح المكتب الدلالي لولا وجود قدرة على معرفة اللغة العلمية التي يمكن أن توصف المشروع أو الفكرة التي خطرت في بال ذلك الشخص. وهذا لم يكن مكتسباً لولا التبحر في الموسوعة، أو سأسميه بالفكر الموسوعي، وهو أحد أسس الاستكشاف المنهجي الذي تحدثنا عنه.

فهذا بالنسبة للاستكشاف، أما بالنسبة للتنفيذ والممارسة، فقد أشرنا إلى أهمية هذا الأمر في تطور الأفكار الإبداعية. والممارسة والتنفيذ أمران ليسا سهلين على الإطلاق، فهناك معرفة كبيرة لازمة للقيام بهما. ولكن لحسن الحظ، فإن الإنترنت تقدم جزءاً كبيراً من هذه المعرفة.

يقع جزء كبير من المعرفة اللازمة للتنفيذ في المحتوى التعليمي الأكاديمي، الذي يقدم لك معرفة عميقة قد لا تستطيع استخلاصها بسهولة من الموسوعات أو الأبحاث. ولم يعد وجودك في جامعة أو كلية ضعيفة يؤثر كثيراً على تقدمك، لاسيما مع مبادرة الكثير من الجامعات لفتح مواردها التعليمية، ولعل أبرزها معهد MIT الذي يعد أكبر جامعة تقدم مقرراتها بشكل مفتوح، ومن الأمثلة على موقع المحتوى التعليمي المفتوح موقع أكاديمية خان الذي يقدم طيفاً واسعاً من المحتوى التعليمي لشتى الاختصاصات العلمية والذي يتيح لك أن تبني وترمم معارفك درجة درجة من الصفر وحتى المستوى المطلوب. فمن المهم بعد أن تحدد وجهتك واهتمامك أن تعرف بالضبط المعرفة الأكاديمية التي أنت بحاجة لها، فهذا مهم على طريق تنفيذ أفكارك وتطبيقها في الواقع.

هناك محطة أخيرة أحب الوقوف عليها وهي محتوى الممارسة. فهو المحتوى الذي يساعدك في التعرف على كيفية قص المادة العازلة التي تغطي شريطاً كهربائياً، أو وصف عملية قص جلد الضفدع لاستخراج جزء معين منه، أو وصف إجرائية رياضية طويلة أو معقدة، أو المشاكل التي يمكن أن تواجه المرء أثناءها. فمحتوى الممارسة هو المحتوى الذي يختزن المعرفة العملية الناجمة عن الممارسة، وهو يضم طيفاً واسعاً من المواقع، مثالها موقع Stack Overflow، وهو موقع أسئلة وأجوبة تعاوني تستطيع أن تطرح فيه ما تواجه من مشاكل برمجية (وله مواقع صديقة في مواضيع مختلفة يمكن الاطلاع عليها هنا)، وكل مجال له مواقعه ومجتمعاته التي يمكن أن تساعدك في مواجهة كل العقبات العملية فيجب عليك أن تتعرف عليها فهي تسرع من قدرتك على الوصول إلى مبتغاك. وربما يجدر بالذكر أن جزءاً كبيراً من المعرفة العملية يختزن في مواقع استضافة الفيديو، وأشهرها يوتيوب.

فهذه نصائح إجمالية حول كيفية الاستفادة من الوب في تسريع العملية الإبداعية.فدع الشغف والحاجات الاجتماعية وأحلام الطفولة أن تحركك، وحاول أن تستفيد من عقول ملايين الناس في تطوير أفكارك، وهذه هي!

بالطبع ما زال هناك طيف واسع من الممارسات ذات الصلة بموضوع الإبداع، مثل طرق إدارة المعلومات الشخصية وتشارك الأفكار مع شركاء وتشكيل مجتمعات حول الأفكار وهو موضوع ربما يستحق أن يفرد بتدوينات لاحقة إن شاء الله.

وربما هذه المقالة هي أحد الأمثلة عما ذكرته ضمن المقالة! فهل كان بالإمكان لولا الإنترنت أن ألتقي بك عزيزي القارئ وأن أتحدث معك؟!

فماذا تنتظر! اذهب وأبدع!

يوجد خطأ ما

في طريق عودتي من الجامعة أضطر إلى عبور الطريق السريع (وهو المتحلق الجنوبي في مدينة دمشق) من خلال جسر للمشاة، وقد تأملت قليلاً في الطريق الذي كان بعرض ثمانية مسارات، وكانت تمر به السيارات الكبيرة والضخمة، وعلى جانبه الأيمن تمتد المساحات الشاسعة لمباني جامعة دمشق الضخمة، بينما تمتد على جانبه الآخر الحقول الزراعية الواسعة، فضلاً عن أعمدة الكهرباء التي تنقل كميات هائلة من الطاقة.

حاولت أن أتفكر بالبنية الاقتصادية والاجتماعية المعقدة الكامنة وراء ما شاهدت، ورغم الحجم الكبير للنشاطات المركبة سواءً المبنية أو المعتمدة على تلك البنية التحتية الكبيرة، فإنها تبدو وبشكل واضح قاصرة عن ملامسة الحاجات أو التطلعات الاجتماعية للبشر الموجودين في هذه المجتمع.

وأظن أن هذه الظاهرة موجودة في العديد من المجتمعات النامية الأخرى.

وأظن أن سبب هذا يعود إلى مجموعة الآليات التاريخية (العفوية أو الواعية) التي أدخلت وطبقت فيها التكنولوجيات والأفكار الجديدة في هذه المجتمعات (وسائط النقل المتقدمة وطرق الإدارة والحوكمة، على سبيل المثال)، مما جعلها تنمو أو تتهيكل على نحو ممسوخ أو متضخم. ربما هذا يحتاج إلى دراسة معمقة، لأنه سيساعد في فهمنا لكيفية إحداث تغيير في المجتمع نحو الأهداف المطلوبة أو المرجوة.

وأظن أن السبب الأساسي وراء هذا هو إدخال هذه الأشياء الجديدة دون محاولة للتوفيق مع الحاجات أو الظروف المحلية، أو بعبارة أخرى بأسلوب من القمة للأسفل top-down approach، وغياب أي تشجيع أو تمكين للبزوغ أو العفوية أو تقوية المجتمعات المحلية.

بعد كتابتي لهذه الخاطرة تذكرت الجزء الأول من محاضرة إقبال قويدر التي تكلمت عنها في التدوينة الماضية. فهو يتحدث عن أهمية تمكين المجتمعات المحلية بمختلف أشكال التمكين، ويرجع أساس نهضة الأوربيين العلمية إلى تمكين الأفراد بمختلف وسائل التمكين التكنولوجي مقابل القوى التقليدية المهيمنة، كما يعزو سبب فشل المساعدات الأجنبية للدول النامية في الحد من مشكلة الفقر إلى أنها زادت من قوة السلطات مقابل إضعاف المجتمعات المحلية والأفراد، وهم القوة الحقيقية القادرة على إدراك مشاكلهم وحلها بالطرق الأكفأ.

دفع العوامل الابتدائية للتغيير

في ظل وجود الإمكانات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، أعتبر أن التحدي الأساسي للتنمية والتطوير لأي منحى من مناحي النشاط البشري هو القدرة على توليد الدفعة الابتدائية لهذا التطوير. أشعر أن دراسة هذا الأمر ذات أهمية.

شاهدت مؤخراً محاضرة لإقبال قويدر في مؤتمر تيد، وهي ذات صلة بهذا الموضوع لاسيما الجزء الثاني.

حيث كان الجزء الأول حول قضية لا تقل أهمية، وهي أهمية الانطلاق من المجتمع المراد تطويره، وهو ما يعبر عنه بالعبارة: “Economics development of the people, by the people and for the people”.

وانطلاقاً من هذه الفكرة يتحدث عن معضلة الدفعة الابتدائية التي أشرت إليها والتي تواجهنا عندما نفكر بهذه الطريقة. ويتحدث عن الأساليب التي حاول اتباعها من أجل التغلب على عوائق إدخال الهواتف المحمولة إلى بنغلادش. يقدم أفكاراً عميقة في هذا المجال.

أهم ما يمكنني ان أذكره هو:

  • تحويل الوسيلة إلى هدف، من خلال تحويل الجوال إلى بقرة (يجب أن تشكرني على هذا التشويق)
  • وحل مشكلة التكلفة العالية للبداية من خلال المشاركة
  • ليس من الضروري البدء بالمشاكل الملحة أو المتداولة أو ما أسميه المشاكل من الرتبة الأولى التي يمكن حلها بطريقة التفافية، من خلال حل مشاكل الرتبة الثانية (من الأمثلة المشابهة على هذا الموضوع مشروع حاسوب محمول من أجل كل طفل فقد يكون أسلوباً للتنمية أكثر نجاعة واستدامة من مشاريع تأمين الأغذية على سبيل المثل)

هناك نظرية أخرى تصب في فهم كيفية توليد الدفعة الابتدائية، وهي نظرية انتشار المبدعات Diffusion of innovations. وإنجازها الأساسي أنها تقسم الناس حسب قدرتهم على تقبل المبدعات أو الأفكار الجديدة، والديناميكية التي يحدث فيها انتقال الأفكار بين هذه الفئات، والتوزيع الإحصائي لهذه الفئات.

أيضاً هناك ما أسميه بمتناقضة الغابة المطرية التي سأكتب عنها في تدوينة منفصلة إن شاء الله.

عودة للتدوين

لقد مضى وقت طويل منذ أن دونت آخر مرة، وكان ذلك في مدونتي القديمة قبل حوالي السنتين.

لقد كان عنوان تلك المدونة: “محاولة بناء تفكير جاد“، والآن أختار أن أدون تحت عنوان جديد هو كما تلاحظون: “تفكير بصوت مرتفع“.

في الحقيقة لقد مررت بتجارب متنوعة دفعت تفكيري إلى الأمام. ولقد كنت موفقاً أن تكون تلك التجارب نوعية بحيث أنه يمكنني أن أقول أنني انتقلت من مرحلة بناء تفكير (أو بالأحرى محاولة ذلك) إلى مرحلة التفكير الفعلي. تجارب من مثل الكتابة في موسوعة ويكيبيديا إلى الغوص في المقررات المفتوحة للجامعات العالمية مروراً بشبكات الأبحاث والويكي الشخصي وأخيراً بالبدء بمشاريع مفتوحة المصدر: تجارب يستحق كل منها أن يخصص له تدوينة خاصة، وهو ما سأعكف عليه جاهداً في الأسابيع القادمة إن شاء الله.

فلم يكن انقطاعي عن الكتابة فتوراً في النشاط (والحمد لله) بقدر ما كان سيطرة نشاطات أخرى علي. والحقيقة أن عتب الكثير من الأصدقاء والقراء هو الذي شجعني ولفت نظري إلى أهمية التدوين ومشاركة الأفكار بشكل علني، وهو الجزء الثاني من عنوان هذه المدونة الجديدة: التفكير بصوت مرتفع، وهو ما سأتكلم عن أهميته بشكل متوسع في تدوينات قادمة إن شاء الله.

كما سأسعى أن أدون مختلف الأفكار والأعمال والأنشطة التي أشارك بها حالياً. ولهذا ستجدني أيها القارئ أحيلك وبشكل متكرر على مدونات مشاريع مجموعة ويكيلوجيا، المجموعة التي تأخذ حالياً الحيز الأكبر من اهتمامي وتفكيري، حيث نعكف مع مجموعة متميزة متعددة الاختصاصات والاهتمامات على دراسة طريقة التعاون الجديدة التي أتاحتها الإنترنت، وتطبيق مشاريع محلية صغيرة لتحسين المجتمع باستخدام هذه الطريقة الجديدة.