في الحقيقة يؤلمني كثيراً رؤية الكثير ممن ما زالوا يعتمدون الطرق التقليدية لإدارة معلوماتهم، رغم كل التغيرات التي طرأت منذ انتشارالحواسيب الشخصية، والأهم منها، وهو وجود الإنترنت وانتشارها في كل الأماكن وجميع الأوقات.
والحقيقة وجدت أفضل طريقة هو أن أعبر عن مراحل التطور التي مررت بها شخصياً لألخص وجهة نظري حول الموضوع. فالمرحلة الأولى كانت عندما كنت في الثانوية، حيث بدأت أشعر أن الكتب والموسوعات الورقية لم تكن تقارن باللامحدودية التي تتمتع بها الإنترنت. ورغم ذلك فإنني كنت أحب دوماً طباعة ما يعجبني من مقالات وصفحات والتلذذ بقراءتها والاحتفاظ بها في مصنفات ورقية.
تطور ذلك الأمر قليلاً عندما أصبح عدد المقالات كثيراً، فبدأت مرحلة التصنيف في ملفات ومجلدات على الحاسب بدل طباعتها. فكنت أحاول حفظ كل ما يعجبني على جهازي، ولكن هذا مع الوقت بدأ يزداد صعوبة بسبب نظام الملفات الشجري، فضلاً عن صعوبة مشاركة اهتماماتي وقراءاتي المشتركة مع أصدقائي.
ولكني قمت بالاستمرار على هذه الحال إلى أن حصل أن فقدت جميع مجلداتي عندما أصيب حاسوبي الشخصي بمشكلة! ورغم أنني حزنت في بداية الأمر، لكنني شعرت بشعور غريب، فقد شعرت أن عقلي أصبح حراً! لقد شعرت أن محاولتي لتنظيم قراءاتي واطلاعاتي ضمن مجلدات ثابتة وشجرية كان يقيد الطريقة التي كان يتطور بها تفكيري. فبسبب أنني كنت أحرص على أن أحفظ كل شيء، وكان ذلك على طريقة الملفات الحاسوبية الشجرية، فقد كان مسار تطور تفكيري مرتبطاً ومقيداً إلى حد بعيد ببنية الملفات الشجرية. وإن أي محاولة للخروج في تفكيري على هذا النمط كان يصطدم بعدم القدرة على حفظ هذه الصورة الجديدة نتيجة محدودية نظام الملفات.
لهذا لم أعد متحمساً بعد ضياع ملفاتي للقيام بتجميع وحفظ الملفات مرة أخرى، ورحت أقرأ بحرية دون أن أقوم بحفظ ما أقرؤه ضمن ملفات ومجلدات. ولكن ذلك لم يكن مشكلة كبيرة في البداية، فكل ما أقرؤه هو موجود على الإنترنت دائماً ويمكنني الوصول إليه في أي وقت أحببت من ناحية المبدأ.
ومع توسع عملية القراءة شعرت بأهمية الكتابة وتنظيم المعلومات والأفكار التي بدأت تتراكم في ذهني. فانتقلت إلى محاولة التدوين حول معظم ما أقرؤه من أخبار وما أتعلم عنه من مصطلحات وعلوم ورأيت في ذلك طريقة جيدة لمشاركة المعلومات والخبرات مع الآخرين في الوقت ذاته. لقد كان هذا ممتعاً لكن سرعان ما أدركت بعض النواقص في طريقة العمل هذه. فأول شيء كان الحرص على كتابة شيء ما، يطغى على القيمة الحقيقية لما أتعلمه، فقد صرت متحمساً لتعلم أي شيء فقط لمجرد متعة كتابته، بالإضافة إلى هذه الطريقة كانت الوحيدة التي كنت أعرفها لحفظ أفكاري.
والشيء الآخر الأكثر أهمية هو أنني اهتديت إلى الكتابة في موسوعة ويكيبيديا. لقد كان لهذا أهمية كبيرة حيث ساعدتني الكتابة في الويكي الفصل بين الشيء الذاتي الذي يعبر عني وعن أفكاري، والشيء الموضوعي الذي يشترك به جميع الناس، وهو الأمر الذي لا تستطيع فعله عادة في المدونة التي يفترض أن تعبر بها عن وجهات نظرك الخاصة أو تجاربك الخاصة بك أو النتائج التي استخلصتها بنفسك. كما أنه جعلني أدرك القيمة الحقيقية للشيء الذاتي الذي كان لدي، وأشعر بقلته أمام البحور التي كنت أتوسع بها في الموسوعة، وهو ما جعلني أنظر بطريقة نقدية أكبر إلى أفكاري الخاصة وأسعى إلى أن أجد لها مكاناً حقيقياً مرتبطاً بعالم الأفكار الموضوعي بدل مجرد الكتابة عما يخطر في ذهني.
تزامن هذا بالطبع مع بداية دخولي إلى الجامعة، وكنت في السنة الأولى من الجامعة أحرص كباقي الطلاب على تدوين ما يمليه الدكاترة والأساتذة. هذا ما أسميه بعقلية الدفتر. لكن سرعان ما تنبهت إلى خطورتها على كفاءة التعلم. فأنت تكتب بشكل أساسي شيئاً يكتبه كل أصدقاؤك وقد كتبه الكثير من الناس قبلك على الإنترنت. فلماذا تقوم بإضاعة الوقت بكتابته مرة أخرى؟ وفي الحقيقة قمنا في كلية الهندسة المعلوماتية بجامعة دمشق بإنشاء ويكي كان دفترنا الجماعي الذي نكتب فيه جميعنا ونتشارك فيه بخبراتنا.
ومع تسارع وتيرة تعلمي بدأت أشعر بعجزي عن استرجاع معلومات سابقة إلا بالاعتماد على ذاكرتي. وكان هذا يعني محدودية في قدرتي على استرجاع معلوماتي السابقة فكما قلت كنت قد توقفت عن التدوين والسبب هو أنه كان من غير الممكن كتابة الخبرات والأفكار التي أتعلمها في مكان عام مثل الموسوعة، كما لم يكن بالإمكان التدوين عن تلك الخبرات في مدونتي لأنها إما لم تكن مكتملة أو أنها لم يكن هناك وقت لتدوينها وإعطاءها حقها.
لهذا تراجع اهتمامي بالتدوين، وأدركت أنه لم يكن مناسباً لي في تلك المرحلة. لكني بعد ذلك خطرت ببالي فكرة الويكي الشخصي. فكنت أكتب فيها ما يحلو لي دون أن أضطر أن أكتبه بشكل كامل أو معد للنشر، كما كان بإمكاني تنظيم أفكاري على شكل مقالات مترابطة ومتشابكة وهو الأمر الذي لا تتيحه المدونة بشكل مرن.
ثم وجدت نفسي أضع الكثير من الروابط في هذا الويكي الشخصي، وشعرت أن هذا غير ممتاز. هنا انتبهت إلى أهمية خدمات وضع العلامات، ولعل أكثر خدمة أعجبتني كانت خدمة diigo. فقد كانت طريقة متميزة لحفظ ما أقرؤه بضغطة زر، وتصنيفها باستخدام الوسوم tags والذي أتاح طريقة غير خطية وغير شجرية لتنظيم واسترجاع المعلومات وهذا شيء جوهري أيضاً وهو التنظيم بأسلوب شبكي networked. وهو أمر تتزايد أهميته في الآونة الأخيرة ولعل من المفيد بمكان أن أورد هذا الفيديو الذي يتحدث عن أهمية الشبكات كنموذج كوني universal model لفهم العديد من المكونات والمنظومات في مختلف العلوم ومجالات الحياة.
طبعاً من المعروف مساوئ الطريقة الخطية، أما مساوئ الطريقة الشجرية فهي أنها طريقة مركزية. فهي تجعلك محدوداً بالنظرة الأولوية التي تعطيها للشجرة، عندما ترسم فروعها الأساسية التي لا يمكنك تعديلها في بعد. وهذا ما تمثله الخرائط الذهنية التي زاد انتشارها في السنين الماضية.
بعد هذه المرحلة هنا تنبهت إلى أهمية التفريق بين تنظيم المعلومات الشخصية للأغراض الشخصية وبين تنظيمها بغرض مشاركتها مع الآخرين. فمن شبه المستحيل أن تقوم بمشاركة كل ما هو في ذهنك لأن هذا له الكثير من التكلفة. هنا أيضاً وعرضها في الوقت ذاته. فهنا اهتديت إلى أهمية استخدام تويتر كمقاربة وحل وسط لهذه المشكلة. فمن خلال تويتر أقوم بنشر تحديثات سريعة حول ما أفكر به وحول ما يخطر بذهني. فهذه وسيلة لاسترجاع قراءاتي وأفكاري وتطوراتها زمنياً، بالإضافة إلى أنها طريقة جيدة للسماح للمهتمين بمتابعتي ومعرفة ما يدور في ذهني ومشاركتي بما يملكون في حال كان ثمة اهتمامات مشتركة.
أما بالنسبة للدفتر والورق، فلم يعد استخدامها منطقي كثيراً. فالنص الذي تكتبه على الورق لا يمكن نسخه ومشاركته مع الآخرين بسهولة، كما لا يمكن التعديل عليه وتطويره إلا بكلفة عالية هي إعادة الكتابة. ولكن يوجد حاجة للورق من أجل شيء واحد هو الحاجة لمساحة حرة للرسم والتدوين والشخبرة، وهذا للأسف ما لا تستطيع الحواسيب تأمينه بشكل كامل وكاف للاستخدام.. ولهذا فإنه عندي دفتر وحيد أكتب عليه خواطر متفرقة كلما خطرت في ذهني. فكلما خطرت ببالي أفكار معينة قمت بتدوينها كعبارات وجمل مختصرة، وأيضاً كمخططات ورسومات، وأقوم بتدوينها بشكل تباعي بحسب تسلسل تبادرها إلى ذهني، وعلى رأس كل ورقة أضع تاريخ اليوم كي أتتبع تاريخ تطور أفكاري. وقد قمت باستخدام هذه الطريقة لتلخيص فكرة مشروع MicroCommunity الذي نقوم به في مجموعة ويكيتيكي.
طبعاً هذه مجرد تجربتي الشخصية والأدوات التي قمت بانتقائها إلى درجة بعيدة احتياجاتي الخاصة التي تختلف حتماً بين الأشخاص باختلاف اهتماماتهم وطبيعة المعرفة التي يتعاملون معها. لهذا سأحاول في نهاية هذه التدوينة أن الخص المبادئ التي يجب أن نحاول مراعاتها عندما نفكر في كيفية التعامل مع معلوماتنا.
يجب تماماً الفصل بين الشيء الموضوعي والشيء الذاتي. لا تحتفظ بشيء يجب أن يكون مشتركاً بين الناس في خزانتك الخاصة. لم يكن هذا مهماً كثيراً قبل عصر الإنترنت، لأنه حتى لو كان هناك شيء موضوعي ومشترك بين الناس، لنقل موسوعة، فيجب أن يكون لديك نسخة خاصة بك. أما الآن فإن احتفاظك بأشياء مشتركة لنفسك سيحرمك ويحرم الآخرين من تطويرها، خصوصاً أن كلفة المشاركة هي تقريباً صفر من ناحية المبدأ.
فالإنترنت لم تعد مجرد مصدر للمعلومات. هي عبارة عن دماغ مؤلف من مليارات الخلايا والوصلات التي يقوم بصنعها البشر. حاول دائماً أن تتخيل دماغك كعقدة صغيرة متصلة بهذا الكون الدماغي الكبير، يحاول بشكل مستمر الاستفادة من الدماغ الكبير لحل مشاكله وفي المقابل يحاول المساهمة في بناء عقد ووصلات جديدة لهذا الدماغ ليستفيد منها الآخرون ويستفيد منها هو نفسه ويزيد من كفاءة وقوة هذا الدماغ. هذا الكلام ليس خيالاً علمياً، وإنما هو حقيقة. فعندما تضع أحد مشاريع العطلة أو مقالاتك وأفكارك بشكل مفتوح، فهي ستخضع حتماً لعملية تطوير ونقد من قبل الآخرين، سواءً أكان ذلك من خلال التعليقات أو التعديلات أو الردود.
ثالثاً مشاركتك هو في الحقيقة إثبات لكفاءتك وقوتك بشكل شفاف ومفتوح. فصفحاتك الشخصية على تويتر وعلى ويكيبيديا ومدوناتك وحسابك على غيت هاب وغير ذلك هو في الحقيقة الطريقة الجديدة التي تبزغ لتقييم مهارات الناس وإمكانياتهم. وربما يجب إفراغ هذا الأمر تدوينة خاصة لاستعراض أهم الأماكن والمواقع والمجالات والاختصاصات التي لها علاقة بهذا الأمر.
رائعة .. 🙂
مقال رائع بمعنى الكلمه … لقد سرعت وتيره تفكيرى فى بدأ مدونتى الخاصه مع الاسنفاده بما عرضته الان من معلومات
جميل جدًا .. مع ذلك فإن اختلاف احتياجات الناس يخلق اتجاهات متعددة ..
أتفق مع عدم جدوى استخدام الورق، وان استخدام انظمة الويكي اكثر فاعلية من المدونات لمشاركة الاشياء الموضوعية، أعجبتني عبارتك “الذاتي. لا تحتفظ بشيء يجب أن يكون مشتركاً بين الناس في خزانتك الخاصة. ”
شكرًا أمجد 🙂
محفّز ..
رائع ولكن مع تضاءل استخدام الورق نجد انفسنا بحاجة إليه كما ذكرت ولو من أجل تدوين رؤوس أقلام أو شخوطات
التنبيهات: إكتشاف الكتابة | لوح وطبشور
بالنسبة لي وجدت خدمة evernote أيضاً فعالة
لقد اشتركت في خدمة Diigo لكنني وجدتها صعبة بعض الشيء