الممارسة والخبرة العملية أساس الإبداع في عصر الإنترنت

في الحقيقة للإبداع عنصرين، الفكرة الجيدة، والقدرة على تحقيق هذه الفكرة وجعلها حقيقة. وقد تحدثت في تدوينة سابقة عن الفضاء الجديد الذي شكلته الوب لتلاقي الأفكار والخبرات وكيف يمكن أن يساعد هذا الفضاء في تسريع وتيرة الإبداع، لاسيما من ناحية تشكل الأفكار الجديدة.
 
ولكن تسارع وتيرة الإبداع وصل إلى درجة أنه من العادي جداً أن تصل إلى فكرة إبداعية وجديدة! في حين أننا كنا قبل عصر الإنترنت نحلم أن نصل إلى فكرة واحدة ربما في حياتنا كلها!
  
فالتحدي الحقيقي الآن ليس في السبق إلى أفكار جديدة، بمقدار ما هو السبق إلى تنفيذ تلك الأفكار وجعلها حقيقة واقعة. وسأتحدث في هذه التدوينة عن الكيفية التي يمكن بها التغلب على هذا التحدي.

في البداية لا بد لي أن أحاول تبديد طريقة تفكير تسيطر على عقلية الكثيرين (حتى أنها كانت تسيطر علي شخصياً)، وهو أنه لا بد من انتظار الأفكار لمدة طويلة وطويلة جداً حتى تنضج وحتى نشعر بالاطمئنان الكافي حتى تصبح الفكرة جاهزة للتنفيذ. وتنفيذ الفكرة هو أبسط وأسهل المراحل، كل ما علينا فعله هو الكثير والكثير من البحث والاستكشاف والتحليل والتنظير، وبمجرد توصلنا إلى فكرة أو نظرية العمر، فإن فكرتنا هذه ستتحقق بطريقة ما، وسيعيش الناس بعدها بكل سعادة وهناءة!

ما جعل طريقة التفكير السابقة خاطئة هو الإنترنت مجدداً. فقبل عصر الإنترنت كانت بالفعل هذه الطريقة هي الطريقة السائدة لتنفيذ الأفكار والمشاريع، أما الآن فنحن نشهد تصاعد وتزايد أهمية طريقة تفكير جديدة هي الأجايل Agile.

في الحقيقة الأجايل منهجية في تطوير البرمجيات تم صياغتها بشكل مكتوب في بداية هذا القرن (يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي على إعلان الأجايل)، ولكن أفكارها لم تقتصر على عالم البرمجيات وإنما توسعت في الأعوام الماضية لتشمل المزيد والمزيد من المجالات الأخرى. ولكي نفهم الأجايل علينا أن نتحدث عن مراحل تطوير المشاريع بشكل عام (وليس فقط البرمجيات كما ذكرنا).

فبداية أي مشروع تبدأ من تحديد وتحليل الاحتياجات والمتطلبات، وبعد ذلك نأتي إلى مرحلة تصميم الحل  لهذه المشكلة. وبعد التصميم نأتي إلى مرحة التحقيق والتنفيذ، وبعدها نأتي إلى مراحل ما بعد الانتهاء من التنفيذ والتي تشمل العديد من الأمور، مثل التحقق من أن الحل الذي تم تصميمه قد حل المشكلة بالفعل، وكذلك المتابعة والصيانة.

النموذج التقليدي لتطوير البرمجيات أو نموذج الشلال (المصدر ويكيبيديا)

في الحقيقة ما تختلف به طريقة الأجايل عن الطريقة التقليدية فيما يخص هذه الدورة، ليس أنها تختصر أياً من هذه المراحل ولا أنها تقوم بإضافة مراحل جديدة. وإنما في مدة هذه المراحل وحجمها. فبدل أن تستمر كل مرحلة لعدة أشهر، وبدل محاولة تنفيذ عشرة أفكار مثلاً دفعة واحدة على دورة كبيرة وطويلة، تقوم بتمرير الأفكار واحدة واحدة في دورات متكررة وسريعة.

فالطريقة التقليدية هي الطريقة التي كانت تعمل بها الشركات البرمجية قبل انتشار الإنترنت. حيث تكون ملتزمة أمام آلاف الزبائن المتوزعين في مناطق جغرافية متباعدة والذين يتوقعون تحديثات أو ميزات جديدة كل فترة متفق عليها. بالطبع هذه الفترات تكون متباعدة بشكل جيد، وبالطبع فإن أي تحديث أو تطوير يجب أن يتضمن عدداً جيداً وكافياً من الميزات الجديدة والإضافية، لأن كلفة إيصال هذا التحديث مرتفعة نسبياً، وهي كلفة إيصال هذا القرص إلى هذا الزبون. لهذا فالشركة كما قلنا مضطرة أن تقوم بإيصال عدد كاف من الميزات الجديدة إلى الزبائن، وهذا في الحقيقة يحمل قدراً من المخاطرة، وتوجد كلفة عالية للفشل، لهذا فإن مراحل التحليل والتصميم والتنفيذ لهذه الزبائن ستسغرق الكثير من الوقت.

أما إن كنت تريد مثالاً عن الأجايل فهو ما تقوم به شركات برمجيات الوب مثل فيسبوك. فحالياً يتضمن الفيسبوك الكثير والكثير من الميزات والخدمات، ولكن كيف تم إيصال هذه الخدمات؟  في الحقيقة بدأ الفيسبوك بميزة صغيرة، وأخذ يتطور كميزات صغيرة تظهر لدى المستخدم كل فترة وجيزة. لقد كان لطريقة التطور هذه أهمية كبيرة في النجاح الذي حققه الفيسبوك حيث استطاع التعلم الكثير من المستخدمين. 

شركات الوب 2.0 والتواصل الاجتماعي تعتمد بشكل أساسي وجوهري على منهجية الأجايل والتعلم من تجارب وسلوك المستخدمين

فأهم شيء مزعج في الطريقة التقليدية هو أنه من الصعب جداً أن تتعلم أي شيء ذا قيمة من تجاربك بكلفة مقبولة. فكيف مثلاً يمكنني أن أعرف إذا كانت الميزات الجديدة قد أعجبت المستخدمين (في حالة الشركة التقليدية)؟ بالتأكيد لا يمكنني أن أعرف سوى عن الأشياء المزعجة بشكل كاف بحيث  جعلت الزبائن يقومون بإضاعة وقتهم بكتابة رسائل احتجا ج يريدون فيها استعادة أموالهم! أما عدا ذلك فما بعد عملية إيصال المنتج إلى يد المستخدم يبقى في نطاق المجهول.

هذه النقطة بالذات هي التي تميز الأجايل عن غيره. وهي القدرة على التعلم من التجارب الصغيرة والتكيف والتأقلم بسرعة مع الدروس التي تم تعلمها.

وهذا في الحقيقة شيء عظيم جداً. أحاول التعبير عن هذه العظمة بهذه المبالغة: فالأجايل يجعلك قادراً على حل أي مشكلة على الإطلاق باستثناء مشاكل المريخ!

فيمكنك دوماً أن تحل مشاكل الكرة الأرضية، حتى لو لم يكن لديك أي نظريات علمية في المجال، طالما أنه توجد إمكانية للتجربة والتعلم بسرعة وديناميكية (والإنترنت لها الفضل الأساسي بهذا).أما بالنسبة لمشاكل المريخ فنتيجة لعوائق التواصل والكلفة العالية لتنفيذ الحلول والتجارب، فإنك بحاجة كبيرة إلى التخطيط والدراسة المسبقة.

طبعاً التكنولوجيات والمنهجيات التي تزيد من فاعلية الإنترنت في عملية الأجايل متنوعة، سواءً تلك التي تزيد من فاعلية الاختبار والتجربة ودراسة مجتمعات المستخدمين، أو تلك التي تسهل عملية تعديل البرمجيات وتطويرها، ومن الصعب الحديث عنها الآن وتحتاج إلى تدوينة مفصلة. وسأكتفي بالإشارة إلى ضخامة تلك التكنولوجيات والطريقة المخيفة التي تزيد فيها من فعالية الأجايل.

ورغم أن موطن قوة الأجايل ما يزال في عالم المعلومات والبرمجيات والإعلام الاجتماعي والإنترنت، فإن العديد من التكنولوجيات الجديدة البازغة في العديد من المجالات جعلت الأجايل يدخل بقوة إليها، وهي واعدة جداً ولاسيما الجيل الجديد من تكنولوجيات العتاد المفتوح المصدر مثل الأردوينو والطابعات ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا البيولوجية المصنوعة يدوياً DIY Biotechnology، والتي كلها جعلت عملية تصنيع نماذج صناعية متقدمة جداً أمراً متيسراً ورخيصاً وفي غاية السهولة، وله تطبيقاته في الكثير والكثير من المجالات الحساسة. ولعل وصولها إلى عالم صناعة السيارات هو أحد الأمثلة الكافية للدلالة على حجم تأثير الأجايل والتغير الجديد الذي أحدثته. فبينما كانت تأخذ دورة التحليل والتصميم للسيارات التقليدية زهاء خمس وعشرين سنة، ها هي سيارة ويكيسبيد WikiSpeed تطرح بنفسها بقوة في أشهر المعارض العالمية، من خلال دورة تصنيع لا تتعدى بضعة أشهر، وذلك بفضل اعتمادها على أدوات الإنترنت واقتباسها لفلسفتها في التغير السريع والذي تعكسه كلمة ويكي.

أمام هذا التغير الكبير يمكن تصور مدى ضعف الأساليب التقليدية للبحث العلمي وتوليد النظريات للإبداع والابتكار. فمن قام بتطوير الفيسبوك لم يكن بحاجة لتطوير نظرية عن أشكال التفاعل الاجتماعي وكيف يمكن الاستفادة منها. بالعكس لقد أصبحنا نفهم الكثير عن التفاعل الاجتماعي بشكل أفضل من خلال تجربة فيسبوك.

هنا تبرز أهمية عدم الفصل بين تطوير الفكرة المجردة وبين تنفيذها. أو ما أحب أن أسميه الأجايل على مستوى الشخص الواحد. فلقد اختفى الحاجز بين الباحث والمنفذ (سواءً أكان هذا المنفذ مبرمجأً أو عاملاً). وصورة الباحث الأرستقراطي الذي ينفق حياته في المختبرات والجامعات ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، ويصدّر النتائج للعالم الواقعي لكي تنفذها جيوش من العمال المنتظرة في الخارج، هذه الصورة من الماضي تماماً.

أهمية الأجايل على مستوى الفرد الواحد هو أنه يمكنني أن أزعم بثقة أنه يجعل عملية تسارع الفكرة وتكيفها إلى أفضل وأمثل شكل، في أسرع شكل يمكن تصوره على الإطلاق! فعندما تكون على دراية واطلاع بالعوائق الحقيقية للتنفيذ وأيضاً بالإمكانات التي تتيحها لك أدوات التنفيذ، فضلاً عن الدروس القيمة التي تتعلمها من نتائج تنفيذك للحل أو الفكرة الابتدائية التي قمت بتنفيذها، فإن أفق الخيال لديك يصبح أكثر تقدماً بشكل كبير جداً ممن لا يمتلك هذه الأدوات وممن لا يستطيع التعلم إلا من خلال ما ينفذه الآخرون،

إن أقصى ما تستطيع أن تراه عندما ترى تلة هو الأفق. في الحقيقة إن من يعمل بيده ومن يمتلك التجربة هو يقف في ذلك الأفق. فلك أن تتخيل الفرق في الخيال كل منهما وفي قدرة كل منهما على تطوير فكرته.

وهناك الكثير من الأمثلة الواقعية والمعاصرة ومن الصعب جداً حصرها، حول الأجايل على مستوى الفرد الواحد، منهم طالب دكتوراه الفيزياء مارشن جاكوباوسكي، الذي ترك دكتوراه الفيزياء وأسس مشروع القرية العالمية المفتوحة المصدر، ومنهم طالب دكتوراه الرياضيات رايان داهل، الذي مل أثناء برنامج دكتوراه الرياضيات الذي كان يقوم به (رغم محبته بالرياضيات)، وقرر تركها وكان أن ابتكر الأداة الجديدة والعظيمة لتطوير تطبيقات وب معاصرة وهي تقنية Node.js. وربما تحتاج قصة كل واحد منهم تدوينة خاصة، لكنني سأحاول أن أذكر قصة صغيرة لجيرمي أشكيناز مبتكر لغة CoffeeScript، وهي لغة جديدة فوق لغة جافاسكربت.

فهذه اللغة التي أصبحت ضمن قائمة أول عشر لغات على github مؤخراً، لم تكن سوى فكرة جميلة بدأت تضرب دماغ جيرمي، كما يقول. وبدلاً من محاولة شرح الأفكار الجديدة التي سيبني عليها لغته، وبدلاً من انتظار موافقة المؤسسة الراعية لعملية تطوير معايير اللغة، كل ما فعله ببساطة هو أنه قام بتطوير اللغة التي كان يشتهيها بيده، وضعها للعلن وبالفعل فإنها قد أعجبت الكثير من المبرمجين وألهمت الكثيرين الآخرين ليقوموا بالكثير من التطويرات والتعديلات واللهجات فوق لغته. وهنا أحب أن أقتبس جزءاً من كلامه في أحد مؤتمرات جافاسكربت الأخيرة، حيث يثمن أهمية مشاركة المطورين العاديين لأفكارهم حتى لو لم تكن مدعمة بالنظريات والشروح النظرية المقنعة، حيث يقول:

“قد لا يوجد في النهاية بديل للتحكيم ونظريات التصميم والممارسة المعبر عنها بلغة جيدة. لكن على الخبراء أن يتعلموا من المستخدمين، الذين قاموا بتحريك جبال بأكملها لوحدهم في السنين العشر الماضية. والمستخدمون، أعني مطورو جافاسكربت، عليهم أن يكونوا على قدر الحوار [يقصد الحوار اللازم لتطوير أفكار اللغة]، وأن يتخلصوا من الخوف ومن السلبية.”

وكما يوضح كاتب التقرير الذي أورد الاقتباس، بلغة أخرى:

 “فالطريقة الأفضل للمطورين للمساهمة في تحديد مستقبل جافاسكربت، هو بناء الميزات التي يحبون وجودها، وأن يضعوها مفتوحة  بين أيدي العالم”.

فتنفيذ نماذج أولية من الأفكار ومشاركتها مع العالم بشكل مفتوح على الإنترنت، أصبح الطريق الأقصر لكي تقنع الآخرين بأهمية وقوة فكرتك، لينضموا فيما بعد إليها ويساعدوك على تطويرها وإغنائها. وعبارة لينس تروفالدز، مؤلف نواة لينكس، تلخص كل هذه القضية حيث يقول:

“لا ينبغي على أي شخص أن يبدأ مشروع كبير مباشرة. عليك أن تبدأ مشروعاً صغيراً وبسيطاً، دون أن تتوقع لهذا المشروع أن يصبح كبيراً. إذا بدأت بالتفكير بهذه الطريقة، فإنك ستقوم بتصميمه بشكل زائد وأكثر من الحاجة، وستشعر أنه شديد الأهمية بدرجة أكبر بكثير من قيمته الحقيقية في تلك المرحلة. أو ربما أسوأ من هذا، فربما تشعر بالخوف من حجم ضغط العمل اللازم لتحقيق رؤيتك الكبيرة. لهذا ابدأ بداية صغيرة، وفكر في التفاصيل. لا تفكر بالصورة الكبيرة وبتصميم خارق. إذا لم يكن بمقدور مشروعك أن يحل حاجة ملحة ومباشرة إلى حد ما، لا بد أن مشروعك مصمم على نحو زائد. ولا تتوقع من الناس أن تقفز وتساعدك، فليست هكذا تعمل الأشياء! عليك أن تقوم ببناء شيء مفيد لمنتصف الطريق أولاً، ثم سيقول لك الآخرون: “أوه هذا بالفعل يحل جزءاً من مشكلتي!”، وسيقومون بالانضمام لمشروعك”

فأسهل طريقة لتقنع الناس بأفكارك التي تشعر أنها ستغير العالم، هو أن تصنع نماذج أولية صغيرة منها، وهو أسهل بكثير من محاولة شرحها ووضع البراهين والنظريات التي تؤيدها، خصوصاً أنه من الصعب عادة التعبير عن الأفكار الجديدة التي تكون في طور التشكل في ذهن صاحبها.

ورغم أن معظم ما ذكرت من أمثلة كان من عالم تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، إلا أن هذا الكلام ينطبق تماماً على المجالات والمعارف الأخرى، وإن كان بدرجات متفاوتة، وربما أحاول إفراد تلك الأمثلة تدوينات خاصة في المستقبل القريب إن شاء الله.

ففي النهاية، وأمام كل هذه الأدوات وهذا التغيير الكبير، تضاءلت بشكل كبير أهمية النظريات الاجتماعية والاقتصادية وحتى العلمية، فما يمكن أن تقدمه للعاملين على الأرض ضئيل جداً أمام ما ذكرناه من الطرق والأساليب الجديدة. خصوصاً أمام تنوع المشاكل وتعقد المشاكل المعاصرة.

ولهذا فإن التجربة والخبرة العملية هي الكلمة الفصل في حل تلك المشكلات وهي المصدر الأول للإلهام والابتكار! وهو الشيء الذي يجب أن يوليه كل مهتم بالتغيير والنهوض في المجتمع، وأن يضعه في الأولوية! وبالطبع هذا لا يعني أن لا تكون طموحاتك ومشاريعك كبيرة، لكن كل ما في الأمر هو أنه ليس عليك أن تنتظر إلى أن تصل فكرتك إلى مراحلها النهائية حتى تبدأ بها، كل ما عليك هو أن تعمل على فكرة بسيطة، وأن تبدأ بالعمل على تنفيذها، وستصل بعد الجهد والمتابعة والتجربة المستمرة إلى مبتغاك النهائي إن شاء الله!

فهل تشعر أن لديك فكرة قيمة ستجعل العالم مكاناً أفضل؟ إذاً فلا تضيع المزيد من الوقت إلا بالعمل على تنفيذها وجعلها حقيقة!