الممارسة والخبرة العملية أساس الإبداع في عصر الإنترنت

في الحقيقة للإبداع عنصرين، الفكرة الجيدة، والقدرة على تحقيق هذه الفكرة وجعلها حقيقة. وقد تحدثت في تدوينة سابقة عن الفضاء الجديد الذي شكلته الوب لتلاقي الأفكار والخبرات وكيف يمكن أن يساعد هذا الفضاء في تسريع وتيرة الإبداع، لاسيما من ناحية تشكل الأفكار الجديدة.
 
ولكن تسارع وتيرة الإبداع وصل إلى درجة أنه من العادي جداً أن تصل إلى فكرة إبداعية وجديدة! في حين أننا كنا قبل عصر الإنترنت نحلم أن نصل إلى فكرة واحدة ربما في حياتنا كلها!
  
فالتحدي الحقيقي الآن ليس في السبق إلى أفكار جديدة، بمقدار ما هو السبق إلى تنفيذ تلك الأفكار وجعلها حقيقة واقعة. وسأتحدث في هذه التدوينة عن الكيفية التي يمكن بها التغلب على هذا التحدي.

في البداية لا بد لي أن أحاول تبديد طريقة تفكير تسيطر على عقلية الكثيرين (حتى أنها كانت تسيطر علي شخصياً)، وهو أنه لا بد من انتظار الأفكار لمدة طويلة وطويلة جداً حتى تنضج وحتى نشعر بالاطمئنان الكافي حتى تصبح الفكرة جاهزة للتنفيذ. وتنفيذ الفكرة هو أبسط وأسهل المراحل، كل ما علينا فعله هو الكثير والكثير من البحث والاستكشاف والتحليل والتنظير، وبمجرد توصلنا إلى فكرة أو نظرية العمر، فإن فكرتنا هذه ستتحقق بطريقة ما، وسيعيش الناس بعدها بكل سعادة وهناءة!

ما جعل طريقة التفكير السابقة خاطئة هو الإنترنت مجدداً. فقبل عصر الإنترنت كانت بالفعل هذه الطريقة هي الطريقة السائدة لتنفيذ الأفكار والمشاريع، أما الآن فنحن نشهد تصاعد وتزايد أهمية طريقة تفكير جديدة هي الأجايل Agile.

في الحقيقة الأجايل منهجية في تطوير البرمجيات تم صياغتها بشكل مكتوب في بداية هذا القرن (يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي على إعلان الأجايل)، ولكن أفكارها لم تقتصر على عالم البرمجيات وإنما توسعت في الأعوام الماضية لتشمل المزيد والمزيد من المجالات الأخرى. ولكي نفهم الأجايل علينا أن نتحدث عن مراحل تطوير المشاريع بشكل عام (وليس فقط البرمجيات كما ذكرنا).

فبداية أي مشروع تبدأ من تحديد وتحليل الاحتياجات والمتطلبات، وبعد ذلك نأتي إلى مرحلة تصميم الحل  لهذه المشكلة. وبعد التصميم نأتي إلى مرحة التحقيق والتنفيذ، وبعدها نأتي إلى مراحل ما بعد الانتهاء من التنفيذ والتي تشمل العديد من الأمور، مثل التحقق من أن الحل الذي تم تصميمه قد حل المشكلة بالفعل، وكذلك المتابعة والصيانة.

النموذج التقليدي لتطوير البرمجيات أو نموذج الشلال (المصدر ويكيبيديا)

في الحقيقة ما تختلف به طريقة الأجايل عن الطريقة التقليدية فيما يخص هذه الدورة، ليس أنها تختصر أياً من هذه المراحل ولا أنها تقوم بإضافة مراحل جديدة. وإنما في مدة هذه المراحل وحجمها. فبدل أن تستمر كل مرحلة لعدة أشهر، وبدل محاولة تنفيذ عشرة أفكار مثلاً دفعة واحدة على دورة كبيرة وطويلة، تقوم بتمرير الأفكار واحدة واحدة في دورات متكررة وسريعة.

فالطريقة التقليدية هي الطريقة التي كانت تعمل بها الشركات البرمجية قبل انتشار الإنترنت. حيث تكون ملتزمة أمام آلاف الزبائن المتوزعين في مناطق جغرافية متباعدة والذين يتوقعون تحديثات أو ميزات جديدة كل فترة متفق عليها. بالطبع هذه الفترات تكون متباعدة بشكل جيد، وبالطبع فإن أي تحديث أو تطوير يجب أن يتضمن عدداً جيداً وكافياً من الميزات الجديدة والإضافية، لأن كلفة إيصال هذا التحديث مرتفعة نسبياً، وهي كلفة إيصال هذا القرص إلى هذا الزبون. لهذا فالشركة كما قلنا مضطرة أن تقوم بإيصال عدد كاف من الميزات الجديدة إلى الزبائن، وهذا في الحقيقة يحمل قدراً من المخاطرة، وتوجد كلفة عالية للفشل، لهذا فإن مراحل التحليل والتصميم والتنفيذ لهذه الزبائن ستسغرق الكثير من الوقت.

أما إن كنت تريد مثالاً عن الأجايل فهو ما تقوم به شركات برمجيات الوب مثل فيسبوك. فحالياً يتضمن الفيسبوك الكثير والكثير من الميزات والخدمات، ولكن كيف تم إيصال هذه الخدمات؟  في الحقيقة بدأ الفيسبوك بميزة صغيرة، وأخذ يتطور كميزات صغيرة تظهر لدى المستخدم كل فترة وجيزة. لقد كان لطريقة التطور هذه أهمية كبيرة في النجاح الذي حققه الفيسبوك حيث استطاع التعلم الكثير من المستخدمين. 

شركات الوب 2.0 والتواصل الاجتماعي تعتمد بشكل أساسي وجوهري على منهجية الأجايل والتعلم من تجارب وسلوك المستخدمين

فأهم شيء مزعج في الطريقة التقليدية هو أنه من الصعب جداً أن تتعلم أي شيء ذا قيمة من تجاربك بكلفة مقبولة. فكيف مثلاً يمكنني أن أعرف إذا كانت الميزات الجديدة قد أعجبت المستخدمين (في حالة الشركة التقليدية)؟ بالتأكيد لا يمكنني أن أعرف سوى عن الأشياء المزعجة بشكل كاف بحيث  جعلت الزبائن يقومون بإضاعة وقتهم بكتابة رسائل احتجا ج يريدون فيها استعادة أموالهم! أما عدا ذلك فما بعد عملية إيصال المنتج إلى يد المستخدم يبقى في نطاق المجهول.

هذه النقطة بالذات هي التي تميز الأجايل عن غيره. وهي القدرة على التعلم من التجارب الصغيرة والتكيف والتأقلم بسرعة مع الدروس التي تم تعلمها.

وهذا في الحقيقة شيء عظيم جداً. أحاول التعبير عن هذه العظمة بهذه المبالغة: فالأجايل يجعلك قادراً على حل أي مشكلة على الإطلاق باستثناء مشاكل المريخ!

فيمكنك دوماً أن تحل مشاكل الكرة الأرضية، حتى لو لم يكن لديك أي نظريات علمية في المجال، طالما أنه توجد إمكانية للتجربة والتعلم بسرعة وديناميكية (والإنترنت لها الفضل الأساسي بهذا).أما بالنسبة لمشاكل المريخ فنتيجة لعوائق التواصل والكلفة العالية لتنفيذ الحلول والتجارب، فإنك بحاجة كبيرة إلى التخطيط والدراسة المسبقة.

طبعاً التكنولوجيات والمنهجيات التي تزيد من فاعلية الإنترنت في عملية الأجايل متنوعة، سواءً تلك التي تزيد من فاعلية الاختبار والتجربة ودراسة مجتمعات المستخدمين، أو تلك التي تسهل عملية تعديل البرمجيات وتطويرها، ومن الصعب الحديث عنها الآن وتحتاج إلى تدوينة مفصلة. وسأكتفي بالإشارة إلى ضخامة تلك التكنولوجيات والطريقة المخيفة التي تزيد فيها من فعالية الأجايل.

ورغم أن موطن قوة الأجايل ما يزال في عالم المعلومات والبرمجيات والإعلام الاجتماعي والإنترنت، فإن العديد من التكنولوجيات الجديدة البازغة في العديد من المجالات جعلت الأجايل يدخل بقوة إليها، وهي واعدة جداً ولاسيما الجيل الجديد من تكنولوجيات العتاد المفتوح المصدر مثل الأردوينو والطابعات ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا البيولوجية المصنوعة يدوياً DIY Biotechnology، والتي كلها جعلت عملية تصنيع نماذج صناعية متقدمة جداً أمراً متيسراً ورخيصاً وفي غاية السهولة، وله تطبيقاته في الكثير والكثير من المجالات الحساسة. ولعل وصولها إلى عالم صناعة السيارات هو أحد الأمثلة الكافية للدلالة على حجم تأثير الأجايل والتغير الجديد الذي أحدثته. فبينما كانت تأخذ دورة التحليل والتصميم للسيارات التقليدية زهاء خمس وعشرين سنة، ها هي سيارة ويكيسبيد WikiSpeed تطرح بنفسها بقوة في أشهر المعارض العالمية، من خلال دورة تصنيع لا تتعدى بضعة أشهر، وذلك بفضل اعتمادها على أدوات الإنترنت واقتباسها لفلسفتها في التغير السريع والذي تعكسه كلمة ويكي.

أمام هذا التغير الكبير يمكن تصور مدى ضعف الأساليب التقليدية للبحث العلمي وتوليد النظريات للإبداع والابتكار. فمن قام بتطوير الفيسبوك لم يكن بحاجة لتطوير نظرية عن أشكال التفاعل الاجتماعي وكيف يمكن الاستفادة منها. بالعكس لقد أصبحنا نفهم الكثير عن التفاعل الاجتماعي بشكل أفضل من خلال تجربة فيسبوك.

هنا تبرز أهمية عدم الفصل بين تطوير الفكرة المجردة وبين تنفيذها. أو ما أحب أن أسميه الأجايل على مستوى الشخص الواحد. فلقد اختفى الحاجز بين الباحث والمنفذ (سواءً أكان هذا المنفذ مبرمجأً أو عاملاً). وصورة الباحث الأرستقراطي الذي ينفق حياته في المختبرات والجامعات ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، ويصدّر النتائج للعالم الواقعي لكي تنفذها جيوش من العمال المنتظرة في الخارج، هذه الصورة من الماضي تماماً.

أهمية الأجايل على مستوى الفرد الواحد هو أنه يمكنني أن أزعم بثقة أنه يجعل عملية تسارع الفكرة وتكيفها إلى أفضل وأمثل شكل، في أسرع شكل يمكن تصوره على الإطلاق! فعندما تكون على دراية واطلاع بالعوائق الحقيقية للتنفيذ وأيضاً بالإمكانات التي تتيحها لك أدوات التنفيذ، فضلاً عن الدروس القيمة التي تتعلمها من نتائج تنفيذك للحل أو الفكرة الابتدائية التي قمت بتنفيذها، فإن أفق الخيال لديك يصبح أكثر تقدماً بشكل كبير جداً ممن لا يمتلك هذه الأدوات وممن لا يستطيع التعلم إلا من خلال ما ينفذه الآخرون،

إن أقصى ما تستطيع أن تراه عندما ترى تلة هو الأفق. في الحقيقة إن من يعمل بيده ومن يمتلك التجربة هو يقف في ذلك الأفق. فلك أن تتخيل الفرق في الخيال كل منهما وفي قدرة كل منهما على تطوير فكرته.

وهناك الكثير من الأمثلة الواقعية والمعاصرة ومن الصعب جداً حصرها، حول الأجايل على مستوى الفرد الواحد، منهم طالب دكتوراه الفيزياء مارشن جاكوباوسكي، الذي ترك دكتوراه الفيزياء وأسس مشروع القرية العالمية المفتوحة المصدر، ومنهم طالب دكتوراه الرياضيات رايان داهل، الذي مل أثناء برنامج دكتوراه الرياضيات الذي كان يقوم به (رغم محبته بالرياضيات)، وقرر تركها وكان أن ابتكر الأداة الجديدة والعظيمة لتطوير تطبيقات وب معاصرة وهي تقنية Node.js. وربما تحتاج قصة كل واحد منهم تدوينة خاصة، لكنني سأحاول أن أذكر قصة صغيرة لجيرمي أشكيناز مبتكر لغة CoffeeScript، وهي لغة جديدة فوق لغة جافاسكربت.

فهذه اللغة التي أصبحت ضمن قائمة أول عشر لغات على github مؤخراً، لم تكن سوى فكرة جميلة بدأت تضرب دماغ جيرمي، كما يقول. وبدلاً من محاولة شرح الأفكار الجديدة التي سيبني عليها لغته، وبدلاً من انتظار موافقة المؤسسة الراعية لعملية تطوير معايير اللغة، كل ما فعله ببساطة هو أنه قام بتطوير اللغة التي كان يشتهيها بيده، وضعها للعلن وبالفعل فإنها قد أعجبت الكثير من المبرمجين وألهمت الكثيرين الآخرين ليقوموا بالكثير من التطويرات والتعديلات واللهجات فوق لغته. وهنا أحب أن أقتبس جزءاً من كلامه في أحد مؤتمرات جافاسكربت الأخيرة، حيث يثمن أهمية مشاركة المطورين العاديين لأفكارهم حتى لو لم تكن مدعمة بالنظريات والشروح النظرية المقنعة، حيث يقول:

“قد لا يوجد في النهاية بديل للتحكيم ونظريات التصميم والممارسة المعبر عنها بلغة جيدة. لكن على الخبراء أن يتعلموا من المستخدمين، الذين قاموا بتحريك جبال بأكملها لوحدهم في السنين العشر الماضية. والمستخدمون، أعني مطورو جافاسكربت، عليهم أن يكونوا على قدر الحوار [يقصد الحوار اللازم لتطوير أفكار اللغة]، وأن يتخلصوا من الخوف ومن السلبية.”

وكما يوضح كاتب التقرير الذي أورد الاقتباس، بلغة أخرى:

 “فالطريقة الأفضل للمطورين للمساهمة في تحديد مستقبل جافاسكربت، هو بناء الميزات التي يحبون وجودها، وأن يضعوها مفتوحة  بين أيدي العالم”.

فتنفيذ نماذج أولية من الأفكار ومشاركتها مع العالم بشكل مفتوح على الإنترنت، أصبح الطريق الأقصر لكي تقنع الآخرين بأهمية وقوة فكرتك، لينضموا فيما بعد إليها ويساعدوك على تطويرها وإغنائها. وعبارة لينس تروفالدز، مؤلف نواة لينكس، تلخص كل هذه القضية حيث يقول:

“لا ينبغي على أي شخص أن يبدأ مشروع كبير مباشرة. عليك أن تبدأ مشروعاً صغيراً وبسيطاً، دون أن تتوقع لهذا المشروع أن يصبح كبيراً. إذا بدأت بالتفكير بهذه الطريقة، فإنك ستقوم بتصميمه بشكل زائد وأكثر من الحاجة، وستشعر أنه شديد الأهمية بدرجة أكبر بكثير من قيمته الحقيقية في تلك المرحلة. أو ربما أسوأ من هذا، فربما تشعر بالخوف من حجم ضغط العمل اللازم لتحقيق رؤيتك الكبيرة. لهذا ابدأ بداية صغيرة، وفكر في التفاصيل. لا تفكر بالصورة الكبيرة وبتصميم خارق. إذا لم يكن بمقدور مشروعك أن يحل حاجة ملحة ومباشرة إلى حد ما، لا بد أن مشروعك مصمم على نحو زائد. ولا تتوقع من الناس أن تقفز وتساعدك، فليست هكذا تعمل الأشياء! عليك أن تقوم ببناء شيء مفيد لمنتصف الطريق أولاً، ثم سيقول لك الآخرون: “أوه هذا بالفعل يحل جزءاً من مشكلتي!”، وسيقومون بالانضمام لمشروعك”

فأسهل طريقة لتقنع الناس بأفكارك التي تشعر أنها ستغير العالم، هو أن تصنع نماذج أولية صغيرة منها، وهو أسهل بكثير من محاولة شرحها ووضع البراهين والنظريات التي تؤيدها، خصوصاً أنه من الصعب عادة التعبير عن الأفكار الجديدة التي تكون في طور التشكل في ذهن صاحبها.

ورغم أن معظم ما ذكرت من أمثلة كان من عالم تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، إلا أن هذا الكلام ينطبق تماماً على المجالات والمعارف الأخرى، وإن كان بدرجات متفاوتة، وربما أحاول إفراد تلك الأمثلة تدوينات خاصة في المستقبل القريب إن شاء الله.

ففي النهاية، وأمام كل هذه الأدوات وهذا التغيير الكبير، تضاءلت بشكل كبير أهمية النظريات الاجتماعية والاقتصادية وحتى العلمية، فما يمكن أن تقدمه للعاملين على الأرض ضئيل جداً أمام ما ذكرناه من الطرق والأساليب الجديدة. خصوصاً أمام تنوع المشاكل وتعقد المشاكل المعاصرة.

ولهذا فإن التجربة والخبرة العملية هي الكلمة الفصل في حل تلك المشكلات وهي المصدر الأول للإلهام والابتكار! وهو الشيء الذي يجب أن يوليه كل مهتم بالتغيير والنهوض في المجتمع، وأن يضعه في الأولوية! وبالطبع هذا لا يعني أن لا تكون طموحاتك ومشاريعك كبيرة، لكن كل ما في الأمر هو أنه ليس عليك أن تنتظر إلى أن تصل فكرتك إلى مراحلها النهائية حتى تبدأ بها، كل ما عليك هو أن تعمل على فكرة بسيطة، وأن تبدأ بالعمل على تنفيذها، وستصل بعد الجهد والمتابعة والتجربة المستمرة إلى مبتغاك النهائي إن شاء الله!

فهل تشعر أن لديك فكرة قيمة ستجعل العالم مكاناً أفضل؟ إذاً فلا تضيع المزيد من الوقت إلا بالعمل على تنفيذها وجعلها حقيقة!

كيف لم أندم على عدم زيارتي معرض الكتاب السنة الماضية!

في الحقيقة كنت أعتبر نفسي من مهووسي وديدان الكتب. فقد كانت القراءة هي أحد أهم الأشياء التي أقوم بها. وفي بيتنا تعانق المكتبات كل جدران البيت. وكانت إحداها مخصصة لي ولإخوتي، وفي كل سنة كنا نتشاجر دوماً حول اقتسام الرفوف، وتكون نتيجة هذه المشاجرات مفاوضات للتنازل عن بعض الكتب القديمة من قبل كل طرف، لكي نضعها في صناديق توضع في غرفة المكتبة المليئة بصناديق الكتب! حيث لم يعد هناك مكان للكتب حتى على رفوف المكتبة!

وكانت زيارة المعرض من أكثر المناسبات خصوصية بالنسبة لعائلتي. وكنت في صغري أذهب مع أسرتي لكن عندما كبرت قليلاً صرت أخصص زيارات منفردة ألبي فيها دوافع فضولي. وفي أغلب الأحيان لا تكفي زيارة واحدة! فأضطر لزيارة المعرض عدة مرات حتى أخمد تماماً مشاعر الفضول والاستكشاف لدي.

لكن الشيء الجديد الذي حصل في المرة الماضية هو أنني لم أزر المعرض! ولم أجد الوقت لذلك، ولم أشعر بالحسرة على ذلك! وسأحاول أن أشرح على نحو عابر لماذا نحن بحاجة أقل للكتاب إن كنا بحاجة لها أصلاً!

الفكرة الأساسية من الكتب هي أن الكاتب يريد إيصال مجموعة من الأفكار، فهو يقوم بإعداد هذه الأفكار وتنظيمها على مدى فترة زمنية معينة، ثم يقوم بتقديمها لك في كتاب.

الشيء المختلف الآن هو أن الإنترنت موجودة الآن. فالكتّاب (ضمن مجالات معينة بالطبع وليس كلها) أصبحوا على الإنترنت، وهم يشاركون لحظة بلحظة كل ما يستجد معهم من أفكار (من خلال أدوات الوب 2.0 ولعل أبرزها تويتر والمدونات)، وتستطيع الاطلاع على كل النقاشات التي يقومون بها مع أصدقائهم وأقرانهم، والنتائج التي يستخلصونها من تلك النقاشات. وتستطيع أن تتابع المؤتمرات واللقاءات التي يحضرونها بشكل مصور أو نتائجها على الأقل. كما تقرأ بشكل تتابعي كل ما يستجد معه من نتائج وأفكار جزئية، كما وتستطيع تبين تعليقات ورودود الآخرين عليها بشكل تفصيلي. والحقيقة الأكبر هي أن الكتاب أصبحوا موجودين معاً على الإنترنت وليس كل شخص بمفرده، وهذا يعني أن جزئيات تطور الأفكار تتفاعل مع بعضها، قبل مراحل كثيرة من مراحل الوصول إلى كتاب نهائي، وهو أمر لم يكن ليحصل قبل انتشار الإنترنت.

فباختصار يمكنك أن تعيش مراحل تطور الكتاب لحظة بلحظة، وربما عندما تقرأ هذا الكتاب في النهاية فستشعر أن هذا الكتاب لا يمكن أبداً أن يختصر هذه التجربة ومراحل تطور هذه الأفكار.

من الأمثلة التي مررت بها هو متابعتي لموضوع التشاركية والتعاون على الإنترنت. فقد كنت أتتبع أبرز وأهم الشخصيات والمواقع والمجلات المتخصصة في هذا الأمر. كما حضرت محاضرات لهؤلاء الأشخاص في مؤتمرات مصورة، كما واطلعت على مقالاتهم وأبحاثهم التي نشروها، ثم تيسر لي أن أقارنها فيما بعد مع كتبهم، ولم أجد سوى أن كتبهم كانت مثل ملخص متواضع لكل تلك التجارب التي عشتها لحظة بلحظة!

المثال الآخر هو في البرمجة وبيئات التطوير. فقد ولى زمن الكتب التقليدية textbooks التي تغطي كل تفاصيل لغة برمجية معينة، والتي تمضي عدة شهور لتقرأها قبل أن تتعلم. كل ما عليك أن تفعله الآن هو أن تبدأ بالعمل على التقنيات التي ترغب بها، وكلما واجهتك مشكلة تريد حلها، فيمكنك البحث عنها والوصول إليها من مصدرها. هذا هو نموذج عند الحاجة on-demand.  فالفكرة هي أنه يمكنك الوصول للمعلومة أو لحل المشكلة التي تريد عند الحاجة من خلال البحث عنها.

 وإن لم تستطع أن تجد الحل المباشر لها فيمكنك ببساطة أن تتصل بمجتمع الخبراء والمتابعين لهذا المجال أو هذا الموضوع. ولعل شبكة Stack Exchange التي تتضمن مجتمعات متخصصة بالعديد من المجالات (أكثر من 80 مجال)، هي من أبرز الأمثلة على ذلك. ومؤخراً ظهرت شبكة كورا Quora، وهي شبكة أسئلة وأجوبة  أكثر طموحاً من شبكة Stack Exchange، تؤمن لك الاتصال بذوي الخبرة الحقيقية الأوائل في أي مجال تريد، رغم أن الشبكة ما زالت قوية في مجال التكنوجيا إلا أنها بدأت تتوسع لتشمل العديد من المجالات مثل الشركات الناشئة startups وغيرها. (ما زال دخول هذه الشبكة يحتاج إلى دعوة فلا تتردد بالتواصل معي إذا كنت ترغب بالانضمام).

فبكل بساطة هؤلاء الأشخاص الذين لديهم خبرة قد يحتاجون إلى وقت طويل حتى يقوموا بكتابة كتب كاملة وشاملة عن خبراتهم. والآن أصبح بإمكانك أن تصل إلى الخبرات الجزئية وغير المكتملة لحظة تشكلها وعند الحاجة لها بفضل مثل هذه المواقع.

وفضلاً عن إمكانية الوصول إلى الخبرات الجزئية، فإن النصوص المكتوبة لم تعد الطريقة الوحيدة المتاحة للتعبير عن الخبرات والمهارات. فعلى صعيد اللغات والبيئات البرمجية باتت تنتشر في الآونة الأخيرة ظاهرة لقطات الشاشة المصورة screencasts والتي باتت الطريقة المفضلة للمبرمجين لنقل خبراتهم بشكل أقرب إلى أبجديات التفاعل البشري من القيام بالكتابة. وهذه محاضرة كاملة يتحدث فيها كريس آندرسون عن أهمية فيديو الوب ودوره في تقليل حاجز مشاركة الكثير من المواهب الخبرات بشكل يسير وسريع مما يساهم على نحو جوهري بتسريع وتيرة الإبداع العالمي. ولعل أبرز مثال أورده هو موقع جوف Jove، الذي هو عبارة عن مجلة أبحاث علمية منشورة بشكل فيديو الطريقة والتي توفر على الباحثين كتابة نتائج أبحاثهم بلغة علمية صارمة مما يوفر ملايين الدولارات.

فالكتب أصبحت شكلاً من أشكال الرفاه العلمي الذي يمكن الشريحة البعيدة عن حافة المجال والاختصاص أن تتمكن من ولوج هذا العالم. ولكن هذا لا يحصل إلا بعد أن ينضج هذا المجال بالفعل، وأن يتطور نموذجه الاقتصادي بحيث يتواجد عدد كاف من القراء يدفع الناشر لتمويل عملية تأليف كتاب. أو أن يتواجد مجتمع كبير جداً ضمن هذا المجال بحيث يقوم بتأليف كتاب بشكل تعاوني ومجاني.

فالكتاب ليس أبداً الأداة المناسبة للراغبين بالريادة وللراغبين بالسبق وبالاستفادة القصوى مما هو موجود في عالم العلم والمعرفة والتكنولوجيا. ولعل المثال الذي واجهته شخصياً كان من خلال استخدامي لأدوات الجيل الثاني من بيئات تطوير الوب (كانت تجربتي مع بيئة Ruby on Rails وعالم جافاسكربت وكذلك عالم Node.js).  حيث كانت هناك تكنولوجيات عظيمة موجودة ومستخدمة ولم يكن هناك الشيء الكافي من المكتوب عنها. وحتى عندما تجد كتيباً فإن هذا يعني أنك تقرأ عن تقنية مضى عليها زمن جيد وانتشر استخدامها لدرجة كبيرة أصبح يوجد مجتمع كاف وكبير حول هذه التقنية ليتفرغ شخص ما للكتابة عنه. طبعاً هذا الموضوع له ارتباط بالنموذج الجديد للتعلم في عصرنا الحالي الذي ربما يجب أن أفرد له تدوينة خاصة به في المستقبل القريب إن شاء الله.

وفي النهاية وكما يجب علينا أن نؤكد دوماً عندما نتحدث عن الأساليب والطرق الجديدة، فإنه ستظل بالطبع حاجة للكتب خصوصاً الكتب القديمة وكذلك الكتب المؤلفة في المجالات التي ما زالت مجتمعاتها بعيدة عن تبني أدوات التشارك وثقافة الانفتاح. أما عدا ذلك، فإذا كانت معلوماتك وأفكارك مصدرها الكتب، فاعلم أنك آخر من يعلم وأقل من يعلم عن هذا الأمر، وهناك الكثير ممن سبقك وممن يمتلك معرفة أكثر عمقاً منك، ولا يميزه شيء سوى أنه يعرف كيف يستخدم الإنترنت والوب! ويعرف كيف يستقي المياه من ينابيعها التي أصبحت من المتيسير لأي شخص عادي أن يصل إليها!

تجربتي في إدارة المعلومات والمعرفة والخبرة الشخصية ومشاركتها مع الآخرين

في الحقيقة يؤلمني كثيراً رؤية الكثير ممن ما زالوا يعتمدون الطرق التقليدية لإدارة معلوماتهم، رغم كل التغيرات التي طرأت منذ انتشارالحواسيب الشخصية، والأهم منها، وهو وجود الإنترنت وانتشارها في كل الأماكن وجميع الأوقات.

والحقيقة وجدت أفضل طريقة هو أن أعبر عن مراحل التطور التي مررت بها شخصياً لألخص وجهة نظري حول الموضوع. فالمرحلة الأولى كانت عندما كنت في الثانوية، حيث بدأت أشعر أن الكتب والموسوعات الورقية لم تكن تقارن باللامحدودية التي تتمتع بها الإنترنت. ورغم ذلك فإنني كنت أحب دوماً طباعة ما يعجبني من مقالات وصفحات والتلذذ بقراءتها والاحتفاظ بها في مصنفات ورقية.

تطور ذلك الأمر قليلاً عندما أصبح عدد المقالات كثيراً، فبدأت مرحلة التصنيف في ملفات ومجلدات على الحاسب بدل طباعتها. فكنت أحاول حفظ كل ما يعجبني على جهازي، ولكن هذا مع الوقت بدأ يزداد صعوبة بسبب نظام الملفات الشجري، فضلاً عن صعوبة مشاركة اهتماماتي وقراءاتي المشتركة مع أصدقائي.

ولكني قمت بالاستمرار على هذه الحال إلى أن حصل أن فقدت جميع مجلداتي عندما أصيب حاسوبي الشخصي بمشكلة! ورغم أنني حزنت في بداية الأمر، لكنني شعرت بشعور غريب، فقد شعرت أن عقلي أصبح حراً! لقد شعرت أن محاولتي لتنظيم قراءاتي واطلاعاتي ضمن مجلدات ثابتة وشجرية كان يقيد الطريقة التي كان يتطور بها تفكيري. فبسبب أنني كنت أحرص على أن أحفظ كل شيء، وكان ذلك على طريقة الملفات الحاسوبية الشجرية، فقد كان مسار تطور تفكيري مرتبطاً ومقيداً إلى حد بعيد ببنية الملفات الشجرية. وإن أي محاولة للخروج في تفكيري على هذا النمط كان  يصطدم بعدم القدرة على حفظ هذه الصورة الجديدة نتيجة محدودية نظام الملفات.

لهذا لم أعد متحمساً بعد ضياع ملفاتي للقيام بتجميع وحفظ الملفات مرة أخرى، ورحت أقرأ بحرية دون أن أقوم بحفظ ما أقرؤه ضمن ملفات ومجلدات. ولكن ذلك لم يكن مشكلة كبيرة في البداية، فكل ما أقرؤه هو موجود على الإنترنت دائماً ويمكنني الوصول إليه في أي وقت أحببت من ناحية المبدأ.

ومع توسع عملية القراءة شعرت بأهمية الكتابة وتنظيم المعلومات والأفكار التي بدأت تتراكم في ذهني. فانتقلت إلى محاولة التدوين حول معظم ما أقرؤه من أخبار وما أتعلم عنه من مصطلحات وعلوم ورأيت في ذلك طريقة جيدة لمشاركة المعلومات والخبرات مع الآخرين في الوقت ذاته. لقد كان هذا ممتعاً لكن سرعان ما أدركت بعض النواقص في طريقة العمل هذه. فأول شيء كان الحرص على كتابة شيء ما، يطغى على القيمة الحقيقية لما أتعلمه، فقد صرت متحمساً لتعلم أي شيء فقط لمجرد متعة كتابته، بالإضافة إلى هذه الطريقة كانت الوحيدة التي كنت أعرفها لحفظ أفكاري.

والشيء الآخر الأكثر أهمية هو أنني اهتديت إلى الكتابة في موسوعة ويكيبيديا. لقد كان لهذا أهمية كبيرة حيث ساعدتني الكتابة في الويكي الفصل بين الشيء الذاتي الذي يعبر عني وعن أفكاري، والشيء الموضوعي الذي يشترك به جميع الناس، وهو الأمر الذي لا تستطيع فعله عادة في المدونة التي يفترض أن تعبر بها عن وجهات نظرك الخاصة أو تجاربك الخاصة بك أو النتائج التي استخلصتها بنفسك. كما أنه جعلني أدرك القيمة الحقيقية للشيء الذاتي الذي كان لدي، وأشعر بقلته أمام البحور التي كنت أتوسع بها في الموسوعة، وهو ما جعلني أنظر بطريقة نقدية أكبر إلى أفكاري الخاصة وأسعى إلى أن أجد لها مكاناً حقيقياً مرتبطاً بعالم الأفكار الموضوعي بدل مجرد الكتابة عما يخطر في ذهني.

تزامن هذا بالطبع مع بداية دخولي إلى الجامعة، وكنت في السنة الأولى من الجامعة أحرص كباقي الطلاب على تدوين ما يمليه الدكاترة والأساتذة. هذا ما أسميه بعقلية الدفتر. لكن سرعان ما تنبهت إلى خطورتها على كفاءة التعلم. فأنت تكتب بشكل أساسي شيئاً يكتبه كل أصدقاؤك وقد كتبه الكثير من الناس قبلك على الإنترنت. فلماذا تقوم بإضاعة الوقت بكتابته مرة أخرى؟ وفي الحقيقة قمنا في كلية الهندسة المعلوماتية بجامعة دمشق بإنشاء ويكي كان دفترنا الجماعي الذي نكتب فيه جميعنا ونتشارك فيه بخبراتنا.

ومع تسارع وتيرة تعلمي بدأت أشعر بعجزي عن استرجاع معلومات سابقة إلا بالاعتماد على ذاكرتي. وكان هذا يعني محدودية في قدرتي على استرجاع معلوماتي السابقة فكما قلت كنت قد توقفت عن التدوين والسبب هو أنه كان من غير الممكن كتابة الخبرات والأفكار التي أتعلمها في مكان عام مثل الموسوعة، كما لم يكن بالإمكان التدوين عن تلك الخبرات في مدونتي لأنها إما لم تكن مكتملة أو أنها لم يكن هناك وقت لتدوينها وإعطاءها حقها.

لهذا تراجع اهتمامي بالتدوين، وأدركت أنه لم يكن مناسباً لي في تلك المرحلة. لكني بعد ذلك خطرت ببالي فكرة الويكي الشخصي. فكنت أكتب فيها ما يحلو لي دون أن أضطر أن أكتبه بشكل كامل أو معد للنشر، كما كان بإمكاني تنظيم أفكاري على شكل مقالات مترابطة ومتشابكة وهو الأمر الذي لا تتيحه المدونة بشكل مرن.

ثم وجدت نفسي أضع الكثير من الروابط في هذا الويكي الشخصي، وشعرت أن هذا غير ممتاز. هنا انتبهت إلى أهمية خدمات وضع العلامات، ولعل أكثر خدمة أعجبتني كانت خدمة diigo. فقد كانت طريقة متميزة لحفظ ما أقرؤه بضغطة زر، وتصنيفها باستخدام الوسوم tags والذي أتاح طريقة غير خطية وغير شجرية لتنظيم واسترجاع المعلومات وهذا شيء جوهري أيضاً وهو التنظيم بأسلوب شبكي networked. وهو أمر تتزايد أهميته في الآونة الأخيرة ولعل من المفيد بمكان أن أورد هذا الفيديو الذي يتحدث عن أهمية الشبكات كنموذج كوني universal model لفهم العديد من المكونات والمنظومات في مختلف العلوم ومجالات الحياة.

طبعاً من المعروف مساوئ الطريقة الخطية، أما مساوئ الطريقة الشجرية فهي أنها طريقة مركزية. فهي تجعلك محدوداً بالنظرة الأولوية التي تعطيها للشجرة، عندما ترسم فروعها الأساسية التي لا يمكنك تعديلها في بعد. وهذا ما تمثله الخرائط الذهنية التي زاد انتشارها في السنين الماضية.

بعد هذه المرحلة هنا تنبهت إلى أهمية التفريق بين تنظيم المعلومات الشخصية للأغراض الشخصية وبين تنظيمها بغرض مشاركتها مع الآخرين. فمن شبه المستحيل أن تقوم بمشاركة كل ما هو في ذهنك لأن هذا له الكثير من التكلفة. هنا أيضاً وعرضها في الوقت ذاته. فهنا اهتديت إلى أهمية استخدام تويتر كمقاربة وحل وسط لهذه المشكلة. فمن خلال تويتر أقوم بنشر تحديثات سريعة حول ما أفكر به وحول ما يخطر بذهني. فهذه وسيلة لاسترجاع قراءاتي وأفكاري وتطوراتها زمنياً، بالإضافة إلى أنها طريقة جيدة للسماح للمهتمين بمتابعتي ومعرفة ما يدور في ذهني ومشاركتي بما يملكون في حال كان ثمة اهتمامات مشتركة.

أما بالنسبة للدفتر والورق، فلم يعد استخدامها منطقي كثيراً. فالنص الذي تكتبه على الورق لا يمكن نسخه ومشاركته مع الآخرين بسهولة، كما لا يمكن التعديل عليه وتطويره إلا بكلفة عالية هي إعادة الكتابة. ولكن يوجد حاجة للورق من أجل شيء واحد هو الحاجة لمساحة حرة للرسم والتدوين والشخبرة، وهذا للأسف ما لا تستطيع الحواسيب تأمينه بشكل كامل وكاف للاستخدام.. ولهذا فإنه عندي دفتر وحيد أكتب عليه خواطر متفرقة كلما خطرت في ذهني. فكلما خطرت ببالي أفكار معينة قمت بتدوينها كعبارات وجمل مختصرة، وأيضاً كمخططات ورسومات، وأقوم بتدوينها بشكل تباعي بحسب تسلسل تبادرها إلى ذهني، وعلى رأس كل ورقة أضع تاريخ اليوم كي أتتبع تاريخ تطور أفكاري. وقد قمت باستخدام هذه الطريقة لتلخيص فكرة مشروع MicroCommunity الذي نقوم به في مجموعة ويكيتيكي.

طبعاً هذه مجرد تجربتي الشخصية والأدوات التي قمت بانتقائها إلى درجة بعيدة احتياجاتي الخاصة التي تختلف حتماً بين الأشخاص باختلاف اهتماماتهم وطبيعة المعرفة التي يتعاملون معها. لهذا سأحاول في نهاية هذه التدوينة أن الخص المبادئ التي يجب أن نحاول مراعاتها عندما نفكر في كيفية التعامل مع معلوماتنا.

يجب تماماً الفصل بين الشيء الموضوعي والشيء الذاتي. لا تحتفظ بشيء يجب أن يكون مشتركاً بين الناس في خزانتك الخاصة. لم يكن هذا مهماً كثيراً قبل عصر الإنترنت، لأنه حتى لو كان هناك شيء موضوعي ومشترك بين الناس، لنقل موسوعة، فيجب أن يكون لديك نسخة خاصة بك. أما الآن فإن احتفاظك بأشياء مشتركة لنفسك سيحرمك ويحرم الآخرين من تطويرها، خصوصاً أن كلفة المشاركة هي تقريباً صفر من ناحية المبدأ.

فالإنترنت لم تعد مجرد مصدر للمعلومات. هي عبارة عن دماغ مؤلف من مليارات الخلايا والوصلات التي يقوم بصنعها البشر. حاول دائماً أن تتخيل دماغك كعقدة صغيرة متصلة بهذا الكون الدماغي الكبير، يحاول بشكل مستمر الاستفادة من الدماغ الكبير لحل مشاكله وفي المقابل يحاول المساهمة في بناء عقد ووصلات جديدة لهذا الدماغ ليستفيد منها الآخرون ويستفيد منها هو نفسه ويزيد من كفاءة وقوة هذا الدماغ. هذا الكلام ليس خيالاً علمياً، وإنما هو حقيقة. فعندما تضع أحد مشاريع العطلة أو مقالاتك وأفكارك بشكل مفتوح، فهي ستخضع حتماً لعملية تطوير ونقد من قبل الآخرين، سواءً أكان ذلك من خلال التعليقات أو التعديلات أو الردود.

ثالثاً مشاركتك هو في الحقيقة إثبات لكفاءتك وقوتك بشكل شفاف ومفتوح. فصفحاتك الشخصية على تويتر وعلى ويكيبيديا ومدوناتك وحسابك على غيت هاب  وغير ذلك هو في الحقيقة الطريقة الجديدة التي تبزغ لتقييم مهارات الناس وإمكانياتهم. وربما يجب إفراغ هذا الأمر تدوينة خاصة لاستعراض أهم الأماكن والمواقع والمجالات والاختصاصات التي لها علاقة بهذا الأمر.

كيف تبدأ رحلة الإبداع في عصر الوب

“بعد إذنك، أنا أركز، أنتظر سقوط تفاحة فوق رأسي”

العديد من الأشخاص ينظرون إلى الإبداع على هذا النحو، فهو لحظة إلهام شبيهة باللحظة المفترضة التي لمعت في ذهن نيوتن حينها فكرة قانون الجاذبية، بعيد سقوط التفاحة. فهو شيء طارئ ينتظر بطريقة من الصعب عليك أن تفعل أي شيء سوى أن تركز وتحلم وتنتظر!

والحقيقة مغايرة لهذا التصور تماماً، فالإبداع كما يقول كين روبنسون عملية يمكن، وبكل بساطة، أن تكون عملية واعية قابلة للتعميم. فهي مبنية بشكل أساسي على الشغف وعلى التطوير المستمر للأفكار وتفاعلها مع وسطها الاجتماعي بشكل حر ودون قوالب معينة (وهذا ما يتناقض في الحقيقة مع الكثير من الأنشطة التي تستهدف “تحفيز” الإبداع). فضلاً عن هذا، وكما يبين ذلك بتفصيل الكاتب الأمريكي المشهور ستيفن جونسون، فإن الإنترنت والوب زادت من معدل الإبداع على نحو غير مسبوق.

ورغم هذا كله إلا أن الكثيرين من الأفراد المتحمسين لا يعرفون بالضبط كيفية البدء. وسأحاول في هذا المقال أقدم بعض النصائح العملية لتضع المرء على الطريق الصحيح، لا أدعي أن هذه النصائح هي كل ما يمكن أن يقال، لكن أعتقد أنها أساسية ضمن هذا المجال. ولا: لست بحاجة إلى أي مستلزمات مسبقة لكي تستفيد من هذه النصائح، سوى أن تحب أن تكون مبدعاً وأن تفكر بشكل حر!

الشغف وقود الإبداع

للشغف مفاهيم في الثقافة العالمية مثل Geek وNerd. يوضح الشكل علاقتها مع بعض المفاهيم الأخرى اضغط على الصورة لمزيد من المعلومات

نعود لما بدأنا به: فالركيزة الأساسية للإبداع هو الشغف. إنه ذلك الشيء الذي يبقيك ساعات وساعات تقوم بشيء ما، وتشعر أنك لم تقض سوى بضع دقائق.

لم هو الشغف مهم إلى هذه الدرجة؟ في الحقيقة إن الشغف وقود الإبداع، وهو الذي يدفعك إلى تحمل الكثير من المصاعب والمشاق، بالإضافة إلى أن ذروة طاقتك تكون في نطاق شغفك.

بناء على هذا فإن عليك أن تعمل ضمن إطار شغفك، وإن لم تكن تعرف ما هو شغفك بالضبط فعليك أن تجعل أولويتك معرفة ذلك. هناك العديد من الطرق، لعل أحدها هو أن تنظر إلى الحاجات الاجتماعية التي تشغل ذهنك أو تفكيرك، فإنني أزعم أن الحاجات والمشاكل الاجتماعية التي تثير انتباه الإنسان مرتبطة إلى حد بعيد بما هو مشغوف به. وهي (أي الحاجات) معقدة وكثيرة، وإذا كنت تشعر وترى أهمية حل مشكلة اجتماعية ما، فهذا يعني أن لها صلة ما بشغفك، فلو لم يكن الأمر كذلك، لم تكن لتراها على الأرجح!

يمكن لأمر آخر أن يساعدك، وهو أحلام الطفولة، فهي كذلك تعكس جزءاً صادقاً من ميولك واهتماماتك، فلا تستهن بها! أما إذا لم تساعدك كل هذه الأمور في معرفة شغفك، فما عليك سوى أن ترم نفسك في كل الاتجاهات: اقرأ كل ما يقع تحت يديك من مجلات وكتب ومقالات وأخبار، والتق بمن شئت من الأشخاص من ذوي الخلفيات المتنوعة، ولا تبخل على نفسك بحضور أي نشاط أو مؤتمر أو لقاء، فكل هذا بالتأكيد، ولو طال الوقت قليلاً، سيساعدك على أن تجد ما يثير اهتمامك وشغفك.

لنبدأ بالإبداع!

في الحقيقة إذا كنت تعرف ما يثير شغفك أو اهتمامك، سواءً أكتشفته الآن أم كنت تعرفه منذ زمن، فإنك ستجد أن لديك شيئاً من الأفكار البسيطة، وربما الساذجة، حول بعض القضايا المعينة. يعني ربما كنت تحلم أن تصنع سيارة أو جهاز حاسوب، أو تشعر بالانزعاج من مظاهر التلوث اليومية أو تهتم ببعض القضايا الفكرية أو الثقافية الموجودة في بيئتك. فمهما كانت نظرتك إلى أفكارك البسيطة تلك، فهي في الحقيقة البذور التي يجب عليك أن تعتني بها.

لكن كيف تعتني بها وكيف تنميها؟ في الحقيقة الأمر بسيط، حالما تشعر أنك فكرتك أصبحت جيدة:

  • اعرضها على من حولك
  • ابدأ بتنفيذها

لكن كيف أجعل فكرتي جيدة؟ عليك أن تقوم بالتالي:

  • اعرضها على من حولك
  • ابدأ بتنفيذها

إذا لاحظت شيئاً من التناقض في كلامي فمعك حق. السبب هو تطابق الهدف والوسيلة! فحتى تحصل على فكرة جيدة تنفذها وتعرضها على الناس، عليك أن تنفذ هذه الفكرة وتعرضها على الناس! فدائما توجد عملية تغذية راجعة، فلا يمكن أبداً أن تصل فكرتك إلى مرحلة جاهزة تعرضها على الناس وتبهرهم بها دفعة واحدة. والفكرة الجيدة تأتي حصيلة نقد وعرض وتمحيص ودمج وتفاعل متكرر ودوري مع أفكار الآخرين (هذا له صلة بما أسميه معضلة الغابة المطرية التي سأكتب عنها في تدوينة قادمة إن شاء الله).

مقطع من فيديو تلخيصي لكتاب ستيفن جونسون "من أين تأتي الأفكار الجيدة"

تسمى هذه الفترة بفترة الحضانة، ولا ريب أن هذه الفترة يجب أن تستمر طويلاً. ولكن إذا ما كان لديك الشغف والإصرار فهذا الأمر سيكون هيناً، وهذا هو ربما السر الحقيقي وراء جميع الابتكارات والأفكار الجديدة في العالم، فكما يشير ستيفن جونسون فإن فكرة الوب التي ابتكرها تيم برنرزلي استغرق تطورها أكثر من عشرين سنة، والأمثلة لا تنتهي للتدليل على فترة الحضانة.

ما علاقة الوب؟

معك حق أن تتساءل عن هذا. في الحقيقة إن الوب زاد من معدل الإبداع. والسبب هو أنه يزيد من سرعة التفاعل مع أفكار الآخرين، وهو الأمر الذي درسه (كما ذكرنا في البداية) ستيفن جونسون في كتابه “من أين تأتي الأفكار الجيدةWhere good ideas come from. فنشوء المدن في العصور الوسطى، بالإضافة إلى انتشار المقاهي كأماكن للقاء الناس من مختلف الخلفيات دون وجود قالب معين لهذه اللقاءات، كانت كما وضح جونسون، العامل الأهم في ازدهار الإبداع في المجتمعات الأوربية إبان عصر النهضة العلمية في أوربة.

ولكن ما هي الخطوات العملية التي يمكن أن نرى فيها أثير الوب على تسريع عملية الإبداع؟ قبل أن نبدأ بالحديث عن هذا سنتعرف بداية على مجموعة أدوات معرفية مرتبطة بالوب أسميها الثلاثية السحرية.

الثلاثية السحرية

ففي ظل هذا التغير الجديدة هناك ما أسميه بالثلاثية السحرية، التي عليك اكتسابها وهي تقوم على

  • التعلم الذاتي
  • استخدام الإنترنت
  • إتقان اللغة الإنكليزية

قمت بوصفها بالسحرية، لأنها لها مفعولاً “سحرياً” على اكتسابك للمعرفة. فهي ستتيح لك الوصول إلى مجتمعات وفضاءات معرفية غير متناهية لا تقارن بحجم ما يمكنك الوصول إليه بدونها. وهذه المهارات كما سيتبين لنا مرتبط بعضها مع بعض، واكتسابها يعتمد بشكل أساسي على ممارستك لها.

لنبدأ بالتعلم الذاتي، فللأسف فإن عليك أن تتعلم هذه المهارة بشكل ذاتي أيضاً! فالتعلم الذاتي مبني بشكل أساسي على التجربة والاستفادة من الخبرات السابقة، فلنقل، وعلى سبيل المثال، أنك تود تعلم قيادة السيارة، وليس هناك من يرشدك، فعليك أولاً أن تستجمع ما تعرفه من قبل عن العملية، فإن أصبت فيما قمت به، فذلك جيد، وإن لم يحصل هذا وحصل خطأ ما (لنقل أنه لم يكن خطأً كارثياً!) فهذا جيد أيضاً لأنه أكسبك خبرة أيضاً ستستفيد منها في المستقبل.

رسم كرتوني يصور مرحلة متقدمة من التعلم الذاتي وهو مفهوم الملتزم بالتعلم ذاتياً Autodidact

فهذا هو المبدأ الذي يعتمد عليه التعلم الذاتي، قد يكون بطيئاً في البداية لكنه لا يلبث أن يتسارع على نحو ملحوظ. بالطبع ليس من الضروري أن تعتمد على تجربتك وحدها في عملية التعلم الذاتي، فإن الإنترنت وضعت إمكانية تسريع العملية  في متناول اليد، فالمشاكل أو الأسئلة التي ستواجهك غالباً ما واجهت أناساً من قبلك، والإنترنت مكان تراكم لخبرات مئات ملايين الناس حول العالم، وبمقدار معرفتك لكيفية الاستفادة من خبرات الآخرين بمقدار ما تزداد سرعتك في الوصول إلى ما تريد. ففاعلية التعلم الذاتي في الحقيقة مرتبطة إلى حد بعيد بالمقدرة على الاستفادة من الإنترنت.

طبعاً استخدام الإنترنت في السياق المعرفي أمر واسع جداً، ولكن ربما أظن أنني أقصد بشكل أساسي قدرتك على استعمال محرك بحث مثل غوغل Google. والمقصود بالطبع ليس غوغل، ولكن المقصود هو القدرات المعرفية المتضمنة في عملية البحث، والتي يمكن أن أقسمها إلى مرحلتين :

المرحلة الأولى ترتبط بالقدرة على الوصول إلى المعلومات. وهذا في الحقيقة مرتبط بشكل كبير بمعرفتك عما تريد. وهنا يطل علينا موضوع اللغة الإنكليزية. فمقدار معرفتك للمصطلحات والتعابير المستخدمة في اللغة الإنكليزية هو الأساس. كيف يمكن اكتساب هذه المصطلحات؟ نعود إلى نقطة الممارسة، فالأمر مرتبط بمدى قراءتك، فالقراءة تزيد من المصطلحات الموجودة لديك والتي يمكنك فيما بعد أن تستخدمها لصوغ ما تود الوصول إليه.

فعلى سبيل المثال، لنقل أنك تريد معرفة كتابة نظام تشغيل من الصفر، فربما يتبادر للذهن أن تكتب في غوغل العبارة التالية:

operating system from zero

في الحقيقة لن تحصل على ما تبتغيه، فرغم أنك عرفت المصطلح الخاص بنظام التشغيل وهذه نقطة جيدة، لكن مصطلح “from zero” غير مستخدم في اللغة الإنكليزية على الإطلاق. بينما لو قمت باستخدام العبارة التالية:

operating system from scratch

فستجد أن أول نتيجة تطابق تماماً مبتغاك. فمثل هذه الخبرة لا يمكن اكتسابها إلا من خلال قراءة مقالة تتضمن هذا المصطلح، فنعود إلى معضلتنا المفضلة في هذه المقالة: الهدف والوسيلة مرتبطان ببعضهما! فحتى تستطيع الوصول إلى مقالات جيدة عليك أن تقرأ الكثير من المقالات الجيدة أيضاً.

أما المرحلة الثانية فهي القدرة على التعامل مع الكم الكبير من المعلومات، فنحن الآن في عصر تتعدد فيه مصادر المعلومات المختلفة وقد يعرف البعض الوصول إلى المعلومات لكنهم يفاجئون بالخيارات الواسعة المتاحة ويصابون بالتشتت. فعدم القدرة على التعامل مع العدد الكبير قد يقود إما إلى الإحباط أو إلى الاعتماد على معلومات ضعيفة. فيجب أن تطور آليتك الخاصة لتقييم المواقع والمحتوى بناء على تجربتك، وأن تسرع عملية التقييم لديك من خلال الاستفادة من تقييمات الآخرين.

طبعاً ومجال الحديث يتسع في المهارات المعرفية التي يجب اكتسابها، لكنها كلها متحمورة حول قدرتك على امتلاك واستخدام هذه الثلاثية السحرية.

لنبدأ اللعب بالثلاثية السحرية!

أما وقد أجملنا الحديث عنها لنتحدث عن كيفية استخدام هذه الثلاثية.

في الحقيقة اخترت لفظ “اللعب” عن قصد. فمن الخطأ الاعتقاد بوجود طريقة واحدة أو قالب ثابت يمكن أن يحفز ويطور أفكارك، فالمجال متروك أمامك لكي تفكر في الكيفية التي ستبحث وتطور فيها أفقك وأفكارك، وحسبي أن أشير إلى بعض الممارسات المقترحة!

النوع الأول من الممارسات هو ما أسميه بالاستكشاف الحر، وهو أن تمضي وقتك مستمتعاً بالإبحار في فضاء المحتوى، لاسيما ما أسميه بالمحتوى التحفيزي، وهو المحتوى الذي يمكنك من أن تعرف آخر المستجدات والمتغيرات في مجال علمي أو معرفي ما بطريقة إجمالية ومحفزة لا تفترض معرفة معمقة أو تفصيلية في هذا المستجد. لعل موقع مؤتمر TED هو خير مثال على هذا النوع من المحتوى، حيث تتميز محاضرات مؤتمر تيد بقصرها (20 دقيقة كحد أقصى) وتركيزها على إثارة الخيال والحماس وإيصال الفكرة الإجمالية بعيداً عن طريقة المحاضرات الأكاديمية التقليدية، فهذا المؤتمر استطاع أن يستقطب النخبة العالمية، لاسيما من خلال أحداث TEDx المحلية التي تجري حول العالم  (ومحاضراته مترجمة بالكامل بفضل فريق الترجمة العربي المميز). فهذه نقطة بداية جيدة ومن الأمثلة الأخرى موقع مجلة العلمي الأمريكي Scientific American، موقع المجلة العريقة المتخصصة بمختلف مناحي العلوم والتقانة، والأمثلة لا تنحصر في الموقعين الأخيرين، والمجال مفتوح أمام بحثك وخبرتك الخاصين بك.

المهم أن عليك دوماً أن تبحث عن أمثال هذه المواقع، فمن المرجح أن تجد الكثير من بذور الأفكار التي لديك أشجاراً كبيرة هناك، فهذا هو أحد الطرق التي تسرع فيها الوب من تطور الأفكار لديك. وكثيراً ما مررت بهذه التجربة، ومنها فكرة روادتني في بداية تعرفي على نظام الويكي، حيث كنت أحدث أصدقائي بحماس عن الكيفية التي سمحت فيها الإنترنت للأعمال التطوعية الجماعية أن تكون أذكى وأقوى من جهود المؤسسات التقليدية، وبالفعل وجدت محاضرة كاملة لكلي شيركي Clay Shirky بعنوان: “التعاون مقابل المؤسسات” Institutions vs collaboration. وكان وراء المحاضرة كتاب كامل حصلت عليه وتمكنت من أفكاره التي استغرق جمعها وتطورها وقتاً كبيراً بلا ريب، والأهم من ذلك أنني استطعت أن أتجاوزها لأبني فوقها. فلولا الإنترنت كنت قد احتجت إلى وقت طويل جداً حتى أصل إلى ما وصل إليه شيركي (هذا إذا وُفقت أن أصل). فمن المهم جداً أن تستطيع أن تتعرف على الأفكار السابقة لأنه غالباً ما ستجد من بدأ بما تفكر به، ومن الجميل جداً أن تستطيع أن تكمل الطريق بعده.

النوع الآخر من الممارسات هو الاستكشاف الممنهج، وفيه عنصران. فأما العنصر الأول فهو الموسوعة. من الصعب أن نشرح أهمية الموسوعة في بضعة أسطر، لكنها ببساطة خريطة المعرفة فبدون الخريطة ستهدر الكثير من طاقتك. فعناصر الموسوعة هي المفاهيم، وعلاقاتها مع بعضها. لهذا فعليك دوماً أن تستشكف المصطلحات والمفاهيم التي تصادفك، لاسيما في المحتوى التحفيزي، وقيامك بهذه العملية هو الأساس لكي تصبح أفكارك أفكاراً مؤصلة تستطيع مكاملتها مع ما سبق ووضعها ضمن السياق العالمي، وهذا هو في الحقيقة ما تقدمه الأبحاث العلمية، فالأبحاث العلمية تحاول دوماً إيجاد علاقات وروابط جديدة بين المفاهيم القديمة. ففي الموسوعة تستكشف العلاقات القديمة، وفي الأبحاث تستكشف العلاقات قيد التأسيس.

يساعد على هذا الأمر استخدامك لموسوعة ويكيبيديا، فكلما صادفك مصطلح جديد ابحث عنه في الموسوعة، فستكتشف كل المصطلحات الأب والابن والإخوة لهذا المصطلح، فبدل أن تأكل حبة عنب واحدة، لم لا تسحب كل العنقود؟ وتطبيق هذا الأمر ليس مقتصراً على معرفة ترجمة المصطلح، فمعرفة اللغة العلمية أيضاً موضوع أساسي. فإن لم تكن لديك اللغة العلمية المتمثلة بالمصطلحات والمفاهيم العلمية، فستجد أن من العسير أن تعبر عما تريد أو أن تتواصل مع المجتمع العلمي.

ومن الأمثلة على ثمار هذا النوع من الاستكشاف هو ما حدث معي مرة، حيث أخبرني أحد الأصدقاء:

“لماذا لا أستطيع وضع الملف والوصول إليه إلا من خلال مجلد واحد؟”

لقد كانت فكرته مهمة جداً. فمثلاً لنقل أنك تصورت مع صديقك خالد في الحديقة وأردت أن تخزن هذه الصورة في جهازك. في الوضع الطبيعي يمكنك أن تضع هذه الصورة في مجلد واحد، لنسمه “صور في الحديقة في التاريخ X”، ولكن لنقل أنك أردت بعد عدة أشهر أن تصل إلى كل الصور مع صديقك خالد. فهذا الأمر غير ممكن إلا إذا كنت قد نظمت ملفاتك بحيث يكون لديك، مثلاً، مجلد “صوري” ومجلد “صور مع خالد” ومجلد “صوري في الحديقة”، وهذا الأمر في الحقيقة مكلف ومتعب.

فكرت قليلاً، وشعرت أن لهذه المشكلة وجه صلة كبيرة بما يسمى بالدلالة Semantics.  وقلت لنفسي ربما يوجد من عمل على فكرة سماها Semantic file manger. بحثت فلم أجد، ثم عاودت البحث عن Semantic Desktop أي سطح المكتب الدلالي، وبالفعل وجدت مشاريع ضخمة ومتقدمة (أحدها ممول من الاتحاد الأوربي وهو مشروع NEPOMUK) وكانت نفس الفكرة التي تحدث عنها صديقي!

فلنتخيل لو أنني كنت متحمساً وبدأت بتطوير هذه الفكرة من الصفر، كم من الوقت سيضيع في حل مشاكل ربما تجاوزها الآخرون وبدؤوا بالتفكير في مشاكل أكثر تقدماً. في الحقيقة كثيراً ما كانت تحدث مثل هذه الأمور بين العلماء في الماضي وهو ما يسمى بالاكتشاف المتعدد Multiple Discovery، وهناك قائمة كاملة للاكتشافات التي قام علماء بالتوصل إليها في أوقات متقاربة رغم عمل كل واحد منهم بشكل مستقل. فربما كان هذا مغفوراً قبل عصر الإنترنت والوب، أما الآن، فهذا خسارة بالنسبة لك، لأن هناك عقول ملايين الناس الموجودة على الإنترنت والتي تتحرك وتتقدم إلى الأمام، ومن المؤسف حقاً أن لا تستطيع أن تستفيد منها، وأن تشغل وقتك بشيء تجاوزه الناس كل هذا لأنك لا تعرف الوصول إليه!

والنقطة الأهم في المثال السابق، هي أنه لم يكن بالإمكان أن أعرف بوجود المشاريع السابقة عن سطح المكتب الدلالي لولا وجود قدرة على معرفة اللغة العلمية التي يمكن أن توصف المشروع أو الفكرة التي خطرت في بال ذلك الشخص. وهذا لم يكن مكتسباً لولا التبحر في الموسوعة، أو سأسميه بالفكر الموسوعي، وهو أحد أسس الاستكشاف المنهجي الذي تحدثنا عنه.

فهذا بالنسبة للاستكشاف، أما بالنسبة للتنفيذ والممارسة، فقد أشرنا إلى أهمية هذا الأمر في تطور الأفكار الإبداعية. والممارسة والتنفيذ أمران ليسا سهلين على الإطلاق، فهناك معرفة كبيرة لازمة للقيام بهما. ولكن لحسن الحظ، فإن الإنترنت تقدم جزءاً كبيراً من هذه المعرفة.

يقع جزء كبير من المعرفة اللازمة للتنفيذ في المحتوى التعليمي الأكاديمي، الذي يقدم لك معرفة عميقة قد لا تستطيع استخلاصها بسهولة من الموسوعات أو الأبحاث. ولم يعد وجودك في جامعة أو كلية ضعيفة يؤثر كثيراً على تقدمك، لاسيما مع مبادرة الكثير من الجامعات لفتح مواردها التعليمية، ولعل أبرزها معهد MIT الذي يعد أكبر جامعة تقدم مقرراتها بشكل مفتوح، ومن الأمثلة على موقع المحتوى التعليمي المفتوح موقع أكاديمية خان الذي يقدم طيفاً واسعاً من المحتوى التعليمي لشتى الاختصاصات العلمية والذي يتيح لك أن تبني وترمم معارفك درجة درجة من الصفر وحتى المستوى المطلوب. فمن المهم بعد أن تحدد وجهتك واهتمامك أن تعرف بالضبط المعرفة الأكاديمية التي أنت بحاجة لها، فهذا مهم على طريق تنفيذ أفكارك وتطبيقها في الواقع.

هناك محطة أخيرة أحب الوقوف عليها وهي محتوى الممارسة. فهو المحتوى الذي يساعدك في التعرف على كيفية قص المادة العازلة التي تغطي شريطاً كهربائياً، أو وصف عملية قص جلد الضفدع لاستخراج جزء معين منه، أو وصف إجرائية رياضية طويلة أو معقدة، أو المشاكل التي يمكن أن تواجه المرء أثناءها. فمحتوى الممارسة هو المحتوى الذي يختزن المعرفة العملية الناجمة عن الممارسة، وهو يضم طيفاً واسعاً من المواقع، مثالها موقع Stack Overflow، وهو موقع أسئلة وأجوبة تعاوني تستطيع أن تطرح فيه ما تواجه من مشاكل برمجية (وله مواقع صديقة في مواضيع مختلفة يمكن الاطلاع عليها هنا)، وكل مجال له مواقعه ومجتمعاته التي يمكن أن تساعدك في مواجهة كل العقبات العملية فيجب عليك أن تتعرف عليها فهي تسرع من قدرتك على الوصول إلى مبتغاك. وربما يجدر بالذكر أن جزءاً كبيراً من المعرفة العملية يختزن في مواقع استضافة الفيديو، وأشهرها يوتيوب.

فهذه نصائح إجمالية حول كيفية الاستفادة من الوب في تسريع العملية الإبداعية.فدع الشغف والحاجات الاجتماعية وأحلام الطفولة أن تحركك، وحاول أن تستفيد من عقول ملايين الناس في تطوير أفكارك، وهذه هي!

بالطبع ما زال هناك طيف واسع من الممارسات ذات الصلة بموضوع الإبداع، مثل طرق إدارة المعلومات الشخصية وتشارك الأفكار مع شركاء وتشكيل مجتمعات حول الأفكار وهو موضوع ربما يستحق أن يفرد بتدوينات لاحقة إن شاء الله.

وربما هذه المقالة هي أحد الأمثلة عما ذكرته ضمن المقالة! فهل كان بالإمكان لولا الإنترنت أن ألتقي بك عزيزي القارئ وأن أتحدث معك؟!

فماذا تنتظر! اذهب وأبدع!

يوجد خطأ ما

في طريق عودتي من الجامعة أضطر إلى عبور الطريق السريع (وهو المتحلق الجنوبي في مدينة دمشق) من خلال جسر للمشاة، وقد تأملت قليلاً في الطريق الذي كان بعرض ثمانية مسارات، وكانت تمر به السيارات الكبيرة والضخمة، وعلى جانبه الأيمن تمتد المساحات الشاسعة لمباني جامعة دمشق الضخمة، بينما تمتد على جانبه الآخر الحقول الزراعية الواسعة، فضلاً عن أعمدة الكهرباء التي تنقل كميات هائلة من الطاقة.

حاولت أن أتفكر بالبنية الاقتصادية والاجتماعية المعقدة الكامنة وراء ما شاهدت، ورغم الحجم الكبير للنشاطات المركبة سواءً المبنية أو المعتمدة على تلك البنية التحتية الكبيرة، فإنها تبدو وبشكل واضح قاصرة عن ملامسة الحاجات أو التطلعات الاجتماعية للبشر الموجودين في هذه المجتمع.

وأظن أن هذه الظاهرة موجودة في العديد من المجتمعات النامية الأخرى.

وأظن أن سبب هذا يعود إلى مجموعة الآليات التاريخية (العفوية أو الواعية) التي أدخلت وطبقت فيها التكنولوجيات والأفكار الجديدة في هذه المجتمعات (وسائط النقل المتقدمة وطرق الإدارة والحوكمة، على سبيل المثال)، مما جعلها تنمو أو تتهيكل على نحو ممسوخ أو متضخم. ربما هذا يحتاج إلى دراسة معمقة، لأنه سيساعد في فهمنا لكيفية إحداث تغيير في المجتمع نحو الأهداف المطلوبة أو المرجوة.

وأظن أن السبب الأساسي وراء هذا هو إدخال هذه الأشياء الجديدة دون محاولة للتوفيق مع الحاجات أو الظروف المحلية، أو بعبارة أخرى بأسلوب من القمة للأسفل top-down approach، وغياب أي تشجيع أو تمكين للبزوغ أو العفوية أو تقوية المجتمعات المحلية.

بعد كتابتي لهذه الخاطرة تذكرت الجزء الأول من محاضرة إقبال قويدر التي تكلمت عنها في التدوينة الماضية. فهو يتحدث عن أهمية تمكين المجتمعات المحلية بمختلف أشكال التمكين، ويرجع أساس نهضة الأوربيين العلمية إلى تمكين الأفراد بمختلف وسائل التمكين التكنولوجي مقابل القوى التقليدية المهيمنة، كما يعزو سبب فشل المساعدات الأجنبية للدول النامية في الحد من مشكلة الفقر إلى أنها زادت من قوة السلطات مقابل إضعاف المجتمعات المحلية والأفراد، وهم القوة الحقيقية القادرة على إدراك مشاكلهم وحلها بالطرق الأكفأ.

دفع العوامل الابتدائية للتغيير

في ظل وجود الإمكانات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، أعتبر أن التحدي الأساسي للتنمية والتطوير لأي منحى من مناحي النشاط البشري هو القدرة على توليد الدفعة الابتدائية لهذا التطوير. أشعر أن دراسة هذا الأمر ذات أهمية.

شاهدت مؤخراً محاضرة لإقبال قويدر في مؤتمر تيد، وهي ذات صلة بهذا الموضوع لاسيما الجزء الثاني.

حيث كان الجزء الأول حول قضية لا تقل أهمية، وهي أهمية الانطلاق من المجتمع المراد تطويره، وهو ما يعبر عنه بالعبارة: “Economics development of the people, by the people and for the people”.

وانطلاقاً من هذه الفكرة يتحدث عن معضلة الدفعة الابتدائية التي أشرت إليها والتي تواجهنا عندما نفكر بهذه الطريقة. ويتحدث عن الأساليب التي حاول اتباعها من أجل التغلب على عوائق إدخال الهواتف المحمولة إلى بنغلادش. يقدم أفكاراً عميقة في هذا المجال.

أهم ما يمكنني ان أذكره هو:

  • تحويل الوسيلة إلى هدف، من خلال تحويل الجوال إلى بقرة (يجب أن تشكرني على هذا التشويق)
  • وحل مشكلة التكلفة العالية للبداية من خلال المشاركة
  • ليس من الضروري البدء بالمشاكل الملحة أو المتداولة أو ما أسميه المشاكل من الرتبة الأولى التي يمكن حلها بطريقة التفافية، من خلال حل مشاكل الرتبة الثانية (من الأمثلة المشابهة على هذا الموضوع مشروع حاسوب محمول من أجل كل طفل فقد يكون أسلوباً للتنمية أكثر نجاعة واستدامة من مشاريع تأمين الأغذية على سبيل المثل)

هناك نظرية أخرى تصب في فهم كيفية توليد الدفعة الابتدائية، وهي نظرية انتشار المبدعات Diffusion of innovations. وإنجازها الأساسي أنها تقسم الناس حسب قدرتهم على تقبل المبدعات أو الأفكار الجديدة، والديناميكية التي يحدث فيها انتقال الأفكار بين هذه الفئات، والتوزيع الإحصائي لهذه الفئات.

أيضاً هناك ما أسميه بمتناقضة الغابة المطرية التي سأكتب عنها في تدوينة منفصلة إن شاء الله.

عودة للتدوين

لقد مضى وقت طويل منذ أن دونت آخر مرة، وكان ذلك في مدونتي القديمة قبل حوالي السنتين.

لقد كان عنوان تلك المدونة: “محاولة بناء تفكير جاد“، والآن أختار أن أدون تحت عنوان جديد هو كما تلاحظون: “تفكير بصوت مرتفع“.

في الحقيقة لقد مررت بتجارب متنوعة دفعت تفكيري إلى الأمام. ولقد كنت موفقاً أن تكون تلك التجارب نوعية بحيث أنه يمكنني أن أقول أنني انتقلت من مرحلة بناء تفكير (أو بالأحرى محاولة ذلك) إلى مرحلة التفكير الفعلي. تجارب من مثل الكتابة في موسوعة ويكيبيديا إلى الغوص في المقررات المفتوحة للجامعات العالمية مروراً بشبكات الأبحاث والويكي الشخصي وأخيراً بالبدء بمشاريع مفتوحة المصدر: تجارب يستحق كل منها أن يخصص له تدوينة خاصة، وهو ما سأعكف عليه جاهداً في الأسابيع القادمة إن شاء الله.

فلم يكن انقطاعي عن الكتابة فتوراً في النشاط (والحمد لله) بقدر ما كان سيطرة نشاطات أخرى علي. والحقيقة أن عتب الكثير من الأصدقاء والقراء هو الذي شجعني ولفت نظري إلى أهمية التدوين ومشاركة الأفكار بشكل علني، وهو الجزء الثاني من عنوان هذه المدونة الجديدة: التفكير بصوت مرتفع، وهو ما سأتكلم عن أهميته بشكل متوسع في تدوينات قادمة إن شاء الله.

كما سأسعى أن أدون مختلف الأفكار والأعمال والأنشطة التي أشارك بها حالياً. ولهذا ستجدني أيها القارئ أحيلك وبشكل متكرر على مدونات مشاريع مجموعة ويكيلوجيا، المجموعة التي تأخذ حالياً الحيز الأكبر من اهتمامي وتفكيري، حيث نعكف مع مجموعة متميزة متعددة الاختصاصات والاهتمامات على دراسة طريقة التعاون الجديدة التي أتاحتها الإنترنت، وتطبيق مشاريع محلية صغيرة لتحسين المجتمع باستخدام هذه الطريقة الجديدة.